تركيا وأوروبا في وجهة العثمانية الجديدة

لن يرغب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يُذكّره أحد بأن عشرين عاما من الأعوام الأربعين التي بقيت تركيا خلالها “واقفة أمام أبواب الاتحاد الأوروبي”، كانت من صنعه هو.
جاء أردوغان إلى السلطة في العام 2003 بمشروع إسلامي مناهض لأوروبا من الأساس. ومنذ الأيام الأولى له في رئاسة الوزراء (أيام كانت هي عصب السلطة التنفيذية)، أطلق أردوغان ما يشبه التهديد، بأن تركيا يمكنها أن تتجه شرقا. وواصل، من بعد ذلك، سياساته القائمة على تبني “عثمانية جديدة” كان يعرف أنها لا تلقى الترحيب في أوروبا، ولا تستطيع أن تفتح لها الأبواب.
السنوات العشرون السابقة، كانت تركيا نفسها، أقل أهلية من ناحية طبيعة نظامها السياسي، لتكون عضوا في الاتحاد الأوروبي. فالبلد ظل يتأرجح بين اضطراب وآخر، وكانت العسكرتاريا التركية جاهزة باستمرار للانقضاض على السلطة في أي وقت.
◙ العثمانية الجديدة قدمت واحدا من أكثر أشكال "نمط الاستبداد الشرقي" إثارة للرعب في أوروبا. وهو نمط لا يحتاج إلى الكثير من "الإسلاموفوبيا" لكي يتحول إلى إسلاموفوبيا لها ما يبررها
قبول الأتراك بحزب العدالة والتنمية لم يكن سببه اليأس من الالتحاق بالركب الأوروبي، وإنما الخوف والضجر من اضطراب الأحزاب العلمانية في إدارة شؤون البلاد. كل ما كان ينقص هذا الخوف والضجر، هو أن تنهار قيمة الليرة التركية، ويحدث زلزال كارثي في 17 أغسطس 1999 لكي يبلغ السيل الزبى بالناخبين. فانتخبوا “العدالة والتنمية” كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
سلطة الرئيس أردوغان شهدت تكرار المأساتين: الليرة عادت لتنهار، وزلزال مدمر آخر وقع في 6 فبراير من هذا العام. إلا أنه نجح في البقاء بالسلطة، لأنه ببساطة “اشتراها” بما يقرب من 6 مليارات دولار أنفقها في زيادة الرواتب، وتقديم خدمات اجتماعية، وإبقاء معدلات الفائدة منخفضة بالضد من نصيحة الخبراء الاقتصاديين (قبل أن يعود ليسمح برفعها بعد الفوز مباشرة). ولكن “العثمانية الجديدة” بقيت هي نفسها. بعض تجلياتها ظهر في السطو على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، مما ليس لتركيا حق فيه. وبعضها الآخر تجلى في دعم سلطة ميليشيات ومرتزقة في ليبيا. كما تجلى مظهر ثالث لها، باحتلال فعلي لقطاع عريض من الأراضي السورية، وتدخلات عسكرية متواصلة في العراق، بزعم مكافحة الإرهاب.
“العثمانية” التي اتجهت شرقا هي التي غذت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في النزاع على إقليم ناغورني قره باغ الذي تقطنه أقلية مسيحية أرمنية. هذه الحرب انتهت بتهجير كل الأرمن من موطنهم ومن منازلهم. أما في أفريقيا، فكان هدفها المباشر هو مناكفة المصالح الغربية، الفرنسية منها خاصة بين الدول الفقيرة في هذه القارة.
هذا مشروع لم يكن بوسع أوروبا أن تتحمله. وهو لم يكن مشروعا ناجحا بالنسبة إلى تركيا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البلاد ظلت تتقلب بين أزمة وأخرى. وإنها حتى وإن حققت توسعا اقتصاديا، فقد كان توسعا عن طريق الاقتراض والتدافع بالأكتاف مع مصالح الآخرين. وفي الواقع، فلولا الدعم المفتوح الذي كسبه أردوغان من قطر، والذي شمل مساعدات وقروضا زادت على 15 مليار دولار في سنوات رئاسته الثانية، فإن ضائقة تركيا الاقتصادية لم تهدأ إلا لكي تتجدد، مما أوقفها على حافة الانهيار. ولولا المنعطف الإماراتي والسعودي بطي صفحة المشاكل، مما أتاح لتركيا أن تفوز بمتنفس آخر، لكان الانهيار مدويا، وهو ما لم ترغب به دول المنطقة. تركيا، بعرف التوازنات الإقليمية، تظل قوة تستحق أن تصمد.
لم يأت الرئيس أردوغان بجديد عندما أعلن في خطابه خلال افتتاح دورة البرلمان التركي الجديدة أن بلاده لم تعد “تتوقع شيئاً” من الاتحاد الأوروبي “الذي جعلنا ننتظر عند بابه منذ 40 عاماً”.
◙ عندما تتجه تركيا شرقا، فإنها تُريح وتستريح. إذ لم ينجح هذا البلد، لا في مؤسساته، ولا قوانينه، ولا في سياساته اليومية، أن يكون بلدا أوروبيا
أردوغان لم يقف منتظرا على الباب. أراد اقتحامه عنوة. وذلك بمنطق القبول بأن سلطته تستطيع ممارسة الانتهاكات التي تشاء، وخوض التهديدات التي تشاء بمصالح الآخرين، من دون أن تتلقى اعتراضا من الاتحاد الأوروبي.
الناظر إلى ما يشكله النزاع على الحقوق في المتوسط بين تركيا من جهة، وبين اليونان وقبرص من جهة أخرى، وتمسك أنقرة ببقاء قبرص مقسمة على وجه الخصوص، لن يكثر عليه الافتراض بأن تركيا لا تستحق عضوية الاتحاد الأوروبي، ولا أن تقف على أبوابه أصلا.
لم تجر محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016 إلا لتؤكد أن سلطة الاستبداد التي اعتقلت عشرات الآلاف من البشر، وطردت أكثر من 250 ألف مواطن من وظائفهم، لا تقف على ذات المستوى الأوروبي من احترام قيم القانون والحريات بل التعددية نفسها.
منعت هذه السلطة ليس انتقاد الرئيس فحسب، ولكنها اعتبرت النكات التي تشير إليه جريمة يستحق مرتكبها السجن لعد ة سنوات. حقوقيون وصحافيون وفنانون من كل اتجاه دخلوا سجون أردوغان لأنهم قالوا شيئا اعتبره تهديدا له أو انتقاصا من مكانته. حتى أصبحت مؤسسة العدالة كلها موضع شكوك جديرة بالاعتبار لأنها ظلت تجاري رغبات سلطة مطلقة.
◙ قبول الأتراك بحزب العدالة والتنمية لم يكن سببه اليأس من الالتحاق بالركب الأوروبي، وإنما الخوف والضجر من اضطراب الأحزاب العلمانية في إدارة شؤون البلاد
أي باب من أبواب أوروبا كان يمكن أن يظل مفتوحا لهذا النمط من التسلطية؟
نرجسية أردوغان المفرطة، والتي صارت محمية بموجب القانون، علّمت الأحزاب الأخرى كيف تتخاطب مع أخطاء سياساته، الاقتصادية خاصة، بفم مكموم.
ولئن كانت هناك أقلية، مؤلفة من عشرين مليون كردي، فإنها لا تستطيع أن تؤلف لنفسها حزبا قبل أن يجري حله أو اتهام قادته بدعم الإرهاب.
العثمانية الجديدة قدمت واحدا من أكثر أشكال “نمط الاستبداد الشرقي” إثارة للرعب في أوروبا. وهو نمط لا يحتاج إلى الكثير من “الإسلاموفوبيا” لكي يتحول إلى إسلاموفوبيا لها ما يبررها.
عندما تتجه تركيا شرقا، فإنها تُريح وتستريح. إذ لم ينجح هذا البلد، لا في مؤسساته، ولا قوانينه، ولا في سياساته اليومية، أن يكون بلدا أوروبيا.
وهي ليست أربعين سنة فقط من الانتظار. بل مئة سنة. أي منذ أن سقطت السلطنة في العام 1922 وأعلنت الجمهورية التركية في 29 أكتوبر 1923. كانت أوروبا هي التي تنتظر الوعود الأتاتوركية، قبل أن تكتشف بمجيء أردوغان إلى السلطة أن “السلطنة” ما تزال حية، تركل وترفس.