تركيا في معترك الحاجة إلى قراءة متوافقة

يمكن لتركيا أن تعيد بناء دورها في المنطقة بما يتلاءم مع حقائقها الخاصة من جهة، وبما يتلاءم مع متطلبات التعاون مع محيطها الدولي والإقليمي، من جهة أخرى. هذا هو السبيل الوحيد، كما يتضح الآن، الذي يتيح لتركيا أن تلعب دورا إيجابيا، لنفسها وللآخرين.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قدّم تصورا خلال لقاء مع بعثات بلاده الدبلوماسية يوحي بأن تركيا تتطلع إلى أن تكون “أحد مؤسسي النظام العالمي الجديد” على اعتبار أنها “قوة إقليمية ودولية فعالة”.
فيدان قال في كلمة له أمام المؤتمر الرابع عشر للسفراء الأتراك “سنعمل بلا كلل (خلال السنوات الخمس المقبلة) على تعزيز مكانة تركيا كلاعب مستقل تمامًا ومؤثر يحدد الأجندة الدولية ويضع عند الضرورة قواعد اللعبة أو يغيرها، ورؤيتنا، (هي) جعل تركيا أحد اللاعبين المؤسسين للنظام العالمي الجديد في قرن تركيا”.
الطموحات شيء رائع. إلا أنها في حاجة إلى أدوات.
السياسات التركية السابقة راهنت على تصور يسعى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية. هذا التصور هو الذي حملها على أن تتخذ من “الإسلام السياسي” أداة للتمدد وفرض النفوذ.
الفرصة المتاحة الآن، هي الأخيرة. لأن ما تراكم من مشكلات اقتصادية على مدار العقدين الماضيين، يجعل من ضياعها كارثة يصعب حتى تصوّرها. ستكون زلزالا يدمر الاستقرار السياسي والاجتماعي، وليس التطلعات الكبرى بمفردها
بدا الأمر مفيدا في وهلته الأولى، إلا أن شعوب المنطقة رفضته. لترفض، بطريقة غير مباشرة، التطلعات التركية معها، قبل أن ينتهي مشروع الإخوان المسلمين إلى الإفلاس التام. كشف هذا المشروع عن نفسه عندما عجز عن إدارة السلطة في تونس ومصر، ليدفع هذين البلدين إلى حافة الهاوية. وتحول إلى مشروع ميليشياوي في ليبيا، يتصارع من أجل النفوذ والمال بقوة السلاح. كما تحول إلى مشروع إرهابي في سوريا.
هذا المشروع، هو في أصله مولّد للإرهاب، مثل شجرة تتفرع منها تنظيمات مسلحة، بينما يزعم الجذع أنه “معتدل” و”مسالم”. ومع إفلاس المشروع، أفلس التطلع العثماني. أفلست معه النظرة العثمانية نفسها إلى المنطقة، باعتبارها بطنا رخوة، يمكن أن تفتح الطريق لاستعمار عثماني جديد. هي ذاتها المنطقة التي تحمله أعباء التخلف لـ623 عامًا، ابتداء من العام 1299 إلى العام 1922، فلم تعرف إلا القهر والاستبداد، فوق التخلف، الذي عاد، فسلّم دول المنطقة إلى الاستعمار الحديث.
صورة العثمانية قد تبدو زاهية في التصور الإسلامي التركي. إلا أنها ليست كذلك بالنسبة إلى دول المنطقة. وهو ما يعني أن مشروع العثمانية الجديدة الذي رفعه الرئيس رجب طيب أردوغان كان، في أقل التقديرات، قراءة غير متوافقة مع قراءة شعوب المنطقة له.
هذا المشروع سقط الآن. الأمر الذي يمكن أن يؤهل تركيا لبداية جديدة.
هذه البداية يمكن أن تحقق نتائج أفضل إذا ما توافقت التطلعات التركية مع قراءة المنطقة لها. العنوان الرئيسي للتوافق هو “تصفير المشاكل” لأجل الانشغال بقضايا التنمية والرفاهية الاجتماعية وعلاقات العمل القائمة على مبدأ الاحترام والمساواة واقتفاء أثر المنافع المتبادلة.
هناك متغير رئيسي واحد في مقاربة أردوغان – فيدان الجديدة، هو التخلي عن “الإسلام السياسي” كأداة من أدوات التدخل في شؤون المنطقة العربية. يتبع هذا المتغير، أن مظاهر التدين تنسحب من الأداء العام داخل تركيا نفسها، لصالح البحث عن سبيل عملي لمعالجة مشاكل تركيا الاقتصادية.
الناتج الإجمالي لتركيا يبلغ نحو 930 مليار دولار. ما يجعل اقتصادها في المرتبة 19 بين أكبر اقتصادات العالم. ولكن هذه المكانة تواجه تحديات ضخمة.
البطالة في تركيا، حسب أحدث بيانات معهد الإحصاء التركي، بلغت 9.6 في المئة. وبلغ معدل التضخم في تركيا 73.5 في المئة على أساس سنوي في فبراير الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ 20 عامًا. والتضخم شر، ولكنه أهون من شر الديون. إذ بلغ إجمالي الدين الخارجي على تركيا 490 مليار دولار في نهاية عام 2022. هذا الدين كان 180 مليار دولار في نهاية عام 2013. الأمر الذي يجعل التوسع الاقتصادي التركي خلال العقدين الماضيين توسعا مكبلا بقيود كارثية، لأنه مما يتكلف تسديد فوائد تبلغ حوالي 30 مليار دولار سنويًا، أو ما يعادل نحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا. أما الديون الداخلية فقد بلغت 235 مليار دولار في نهاية مارس الماضي، أو ما يعادل 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الدين كان يبلغ 62 مليار دولار في نهاية عام 2016. أي أن الشركات الحكومية والخاصة استدانت 173 مليار دولار لتوسيع الاقتصاد الداخلي. أما العجز التجاري فقد بلغ 12.66 مليار دولار في مايو الماضي، مما يمثل زيادة بنسبة 18.8 في المئة عن نفس الشهر من العام السابق.
كل ذلك بينما لا تزيد احتياطات المصرف المركزي التركي من النقد الأجنبي عن 113 مليار دولار.
السياسات التركية السابقة راهنت على تصور يسعى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية. هذا التصور هو الذي حملها على أن تتخذ من "الإسلام السياسي" أداة للتمدد وفرض النفوذ
هذه التحديات تجبر صانعي السياسة في تركيا على النظر في موطئ أقدامهم، قبل النظر إلى الآفاق البعيدة.
عندما تغيب مطالعة الحقائق الاقتصادية عن مجال الرؤية، فإنها تخلق عثرات جسيمة.
تحتاج إدارة أردوغان الجديدة، سواء الاقتصادية منها أو السياسية، أن تعيد بناء تصوراتها انطلاقا من تلك الحقائق. وهي حقائق خشنة على أيّ حال، ولا تني تفرض نفسها على الأدوار الفعلية الممكنة. وما يحصل، هو أنك لا تفعل سوى أن تزيد الطين بلة، عندما تتجاهلها.
فلسفة التعاون هي المخرج الوحيد الممكن. الأدوار الكبرى إنما يصنعها الاقتصاد. وهذا مما يتطلب علاقات عمل، لا تكتفي بتحييد الأيديولوجيا، بل تمتد إلى تحييد الخلافات والنزاعات السياسية. وهذا هو المعنى من “تصفير المشاكل”.
لا يمكن التغافل عن حقيقة أن قيادة أحمد داود أوغلو للسياسة الخارجية التركية بين عامي 2009 و2014، ومن ثم قيادته للحكومة بين عامي 2014 و2016، كانت هي التي أرست الأساس للنمو الاقتصادي التركي، وفقا لمبدأ تصفير المشاكل، قبل أن تعود “العثمانية الجديدة” لتفرض نفسها عليه، ما دفعه إلى الاستقالة.
البحث عن دور كبير، مثل أن تكون تركيا “أحد مؤسسي النظام العالمي الجديد”، حق مشروع، حتى ولو بدا وكأنه ثوب أكبر مما يمكن لتركيا أن تلبسه في ظروفها الاقتصادية الراهنة. ولكن بافتراض، أن هذه الظروف يمكن أن تتغير إلى الأفضل خلال السنوات الخمس المقبلة، فإن التغير لن يتحقق، إلا باستعادة فلسفة التعاون، بكل ما تعنيه من تسهيلات ورغبات صادقة في تيسير المنافع المتبادلة.
وفي الواقع، فإن الفرصة المتاحة الآن، هي الأخيرة. لأن ما تراكم من مشكلات اقتصادية على مدار العقدين الماضيين، يجعل من ضياعها كارثة يصعب حتى تصوّرها. ستكون زلزالا يدمر الاستقرار السياسي والاجتماعي، وليس التطلعات الكبرى بمفردها.
تركيا بلد جدير بمكانته. ومن أجل قراءة متوافقة، فإن دول المنطقة تريده أن يخرج من أوهامه، لا أن يذهب إلى أوهام جديدة.