تركيا بين العقدة والحل

تعاني تركيا على المستويين الداخلي والخارجي جملة مشكلات باتت مكشوفة، وواضحة للجميع. ولم تعد الخطابات والشعارات العاطفية التعبوية قادرة على التغطية أو التستر عليها.
فعلى المستوى الداخلي، يواجه حزب العدالة والتنمية معضلات عدة، منها ما يخص تباين الآراء حول المسائل الأساسية، وذلك إلى درجة تتجاوز، بعض الشيء، نطاق تعددية المواقف ضمن الحدود المسموح بها داخل الأحزاب الحاكمة في منطقتنا.
أما مردّ ذلك فهو التقدير المختلف لسياسات الرئيس رجب طيب أردوغان الاقتصادية منها والتحالفية الداخلية. هذا إلى جانب الجدل حول سياساته الخارجية، خاصة على المستوى الإقليمي.
كما يعاني الحزب المعني من مشكلات على صعيد تحالفاته الحزبية، لاسيما مع الحزب القومي اليميني، وقد أدى هذا التحالف إلى التشدد في الموضوع الكردي الذي يظل بالنسبة إلى الداخل التركي الملف الأهم الذي ينتظر حلا عادلا من شأنه تعزيز الاستقرار في الداخل التركي، الأمر الذي يفسح المجال أمام تركيا لتركز جهودها على متابعة استحقاقات دورها الإقليمي في ظل واقع الزلازل الكبرى التي تشهدها المنطقة. وهي متغيرات ومستجدات ستنعكس آثارها من دون شك على الوضع التركي لأسباب عدة في مقدمتها: الواقع الجغرافي والتداخل السكاني، وما يعنيه ذلك من تفاعلات قومية ومذهبية.
هذا إلى جانب المعطيات التاريخية وأهمية دورها في الحسابات الدولية التي تقوم على معادلات النفوذ، والقدرة على التأثير في ظل التحولات الجديدة التي توحي كل الدلائل بأنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى ما يمكن أن يندرج تحت صيغة من صيغ إعادة الهيكلة إذا جاز التعبير.
وبالعودة إلى نتائج الانتخابات المحلية التي جاءت نتائجها صادمة للحزب المعني، وللرئيس أردوغان شخصيا الذي تعد إسطنبول في منظوره الأساس في حكم تركيا، فمن يحكم إسطنبول يحكم تركيا، فقد كانت ردود الأفعال متوترة، ومصرّة على إعادة الانتخابات في المدينة، وهو الأمر الذي قررته اللجنة العليا للانتخابات بعد سلسلة الاعتراضات والمطالبات التي كانت من جانب حزب العدالة، ومن المفروض أن تكون في 23 يونيو المقبل.
وما يستنتج من جملة المعطيات والإجراءات المتوفرة والمعمول بها هو أن جهودا كثيرة تبذل على مختلف المستويات، وفي عدة اتجاهات من أجل ضمان فوز مرشح حزب العدالة والتنمية في انتخابات الإعادة التي كانت وستظل موضع النقد والامتعاض من طرف المعارضة، ولكن الأصعب بالنسبة إلى أردوغان يتمثل في المعارضة الداخلية ضمن حزب العدالة نفسه.
أما على الصعيد الإقليمي، فمن الواضح أن تركيا في حيرة من أمرها. هل تستمر في تموضعها ضمن المحور الروسي – الإيراني، وتحوّل مشاريع تزودها بالسلاح الروسي إلى واقع قائم مؤثر في لوحة التحالفات الاستراتيجية أم عليها العودة إلى الحليف التقليدي الذي ما زالت ترتبط وإياه بالكثير من الروابط والمصالح والالتزامات؟
وما يزيد من صعوبة الموقف التركي هو التوتر الحالي الذي يخيّم على العلاقة الأميركية-الإيرانية، هذا التوتر الذي تجاوز دائرة التصريحات الإعلامية، والعقوبات الاقتصادية، ليصل إلى مستوى حشد أميركي لافت للقوات البحرية والجوية والبرية في المناطق القريبة من إيران. وما يرافق ذلك من شروط أميركية، تطالب الإيرانيين علنا بضرورة تغيير السلوك، والقطع مع الدور التخريبي في المنطقة، وعدم التفكير في امتلاك السلاح النووي. ومن المرجّح أن تكون هناك شروط أخرى غير معلنة، تتصل بعملية إعادة ضبط للمعادلات التوازنية في المنطقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو الدور التركي المقبل في هذه المعادلات المنتظرة؟ هل ستنضم تركيا بصورة كاملة إلى المحور الروسي – الإيراني، وتفارق المحور الأميركي وحلف الناتو وذلك استعدادا لتعزيز التحالفات مع الصين ودول جنوب شرقي آسيا، والتخلي عن حلمها القديم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي بات هو الآخر يعاني من جملة مشكلات تتمثل في تصاعد اليمين المتشدد، وحالة عدم الاستقرار نتيجة التباينات العميقة حول سياسة الهجرة، والموقف من المهاجرين، وكيفية التعامل مع النشاطات المتطرفة، سواء تلك التي تُسوّق باسم الإسلام السياسي المتطرف، أم تلك التي ترتكب، أو يُخشى من ارتكابها، من جانب اليمين الأوروبي، والغربي عموما، المتطرف.
كما أن أجواء الحرب الباردة الجديدة بين الروس والأميركان تؤثر على الواقع الأوروبي بشكل مؤثر، خاصة في مناخات تراجع الثقة بالحليف الأميركي الذي بات يشدد على المصلحة الأميركية أولا، وهو ما يساهم في تعزيز مواقف التيارات القومية اليمينية المتطرفة التي تعمل صراحة، أو ضمنا، من أجل التخلص من الاتحاد الأوروبي كمؤسسة نشأت من أجل تقوية الروابط الأوروبية المشتركة في مختلف الميادين، وكان ذلك بهدف تجاوز نتائج الحربين العالميتين، وقطع الطريق أمام حروب جديدة في المسرح الأوروبي.
المرحلة الراهنة بالنسبة إلى تركيا مفصلية، تواجه فيها تحديات واستحقاقات كبرى، لذلك فهي في حاجة ماسة إلى تجاوز واقع الانقسامات الحادة في داخلها الوطني على المستويين الحزبي والمجتمعي، وذلك يكون عبر الانفتاح على المعارضة ورفع القيود عن حريات التعبير، والعودة ثانية إلى فتح ملف العملية السلمية لحل القضية الكردية على أسس عادلة، تحترم الخصوصية والحقوق الكردية، وتراعي في الوقت ذاته وحدة البلد، وتعزيز دوره ومكانته في الإقليم.
كما أن التفاهم التركي – السعودي يظل حجر الأساس في استقرار العلاقة التركية مع جوارها العربي، ويحقق صيغة من صيغ التوازن الاستراتيجي الإقليمي الذي يأخذ بعين الاعتبار دور القوى الإقليمية الأخرى، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى كل من مصر وإسرائيل وإيران. توازن يقوم على أساس احترام الحقوق، ومراعاة الحساسيات، وتبادل المصالح، وعدم التدخل في شؤون الدول والمجتمعات.
تعيش منطقتنا حالة عدم الاستقرار منذ نحو قرن من الزمان. وهي مرحلة طويلة كانت مثخنة بالانقلابات والاصطفافات والصراعات. وقد شهدنا خلالها جملة حروب باردة وساخنة استنزفت الكثير من الموارد البشرية والطبيعية، وحالت دون حدوث تراكم اقتصادي وعلمي ومعرفي لاسيما على مستوى امتلاك التكنولوجيات الحديثة من موقع الفاعل المبدع وليس من موقع المتلقي المنفعل.
التفاهمات الإقليمية الصادقة على أسس واضحة ستكون في مصلحة الجميع، وستساهم في حل الكثير من المشكلات التي تبدو راهنا مستعصية عن الحل. والجدير بالذكر هنا هو أنه لا يمكن الحديث عن أي تنمية فعلية حقيقية ما لم تستقر الأوضاع في المنطقة، وهنا لا بد من التأكيد مجددا على أهمية التفاهم السعودي – التركي الذي يبقى الأرضية الأساس التي يبنى عليها مثل هذا الاستقرار، وما نأمله هو أن تحقّق قمة مكة الإسلامية أمرا من هذا القبيل.