ترقية البشر.. في جدوى تطوير "الإنسان الخارق"

لا جدوى من التساؤل عن مصداقية ما يتناقله العلماء حول اقتراب البشرية من عصر الإنسان الخارق، هذه حقيقة باتت أقرب مما نظن. الإنسان يمتلك التكنولوجيا التي ستمكنه من التحول إلى "سوبرمان". السؤال الذي يجب أن نطرحه، وطرحه كاتب هذا المقال، هو ما جدوى تطوير إنسان يمتلك قوى خارقة؟
حلم الطفولة البريئة بالتحول إلى بطل خارق قادر على القيام بمعجزات بات أقرب إلى الحقيقة؛ فعاجلاً أم آجلاً، سوف يمتلك البشر قدرات خارقة قد تفوق قوة "آيرون مان" والساحرة الإغريقية "ميديا"، فيستطيعون أن يقرأوا الأفكار، ويطيروا في الهواء، ويسافروا بسرعات فائقة، ويتحكموا في الأشياء من حولهم بأدمغتهم، ويمتلكوا قدرات غير مسبوقة وكأنهم أصبحوا سحرة وليسوا فقط بشراً خارقين.
هذا ما تسعى له شركات التكنولوجيا وتروج على أنه سوف يحدث في وقت ما، قد يكون أقرب بكثير مما نظن، وربما تكون أمّ قد وضعت اليوم مولوداً قُدر له أن يمتلك مثل هذه القدرات، فقد يحدث هذا بالفعل لمجرد أننا “نستطيع أن نفعل"، من دون معرفة "لماذا" أو كيف يؤثر ذلك علينا!
ولأن قطار تطوّر البشر ورُقيّهم قد غادر المحطة بالفعل، فيجب علينا على الأقل أن نعرف إلى أي مدى سوف ينجح البشر في صناعة مثل هذا الإنسان الخارق، وهل تحتاج الإنسانية حقاً وجود مثل هذه القوة؟ وهل يستطيعون تحملها إذا وُجدت؟ والسؤال الأهم؛ هل ستكون تلك القوة متاحة لكل البشر أم سيظهر لدينا بشر خارقون امتلكوها، وآخرون مستضعفون في الأرض أصبحوا "عبيداً عند الأسياد الجدد"؟
رغبة الإنسان في التطور وامتلاك قدرات خارقة بالغة القدم، مثلتها الحضارة الإغريقية القديمة في شخصيات بشرية افتراضية صنعتها الآلهة وأكسبتها قدرات خارقة، مثل باندورا وتالوس وبروميثيوس. فوفقاً للأسطورة الإغريقية، أوكل زيوس مهمة خلق الإنسان إلى بروميثيوس، ومهمة خلق الحيوانات إلى إبيمثيوس. وانهمك بروميثيوس في صناعة تفاصيل الإنسان بعناية، في الوقت الذي انشغل فيه إبيمثيوس بتشكيل الحيوانات فمنحها كل عطايا زيوس، من السرعة والقوة إلى حدة السمع والبصر، والقرون والأنياب والفرو، في حين جاء البشر ضعفاء لا يقدرون على حماية أنفسهم في مواجهة الوحوش، ومن هنا جاءت فكرة صناعة شخصيات ذات قدرات خارقة.
هاجس التطور لدى البشر بدأ يتعاظم مؤخراً، خاصة إثر ثورة التكنولوجيا غير المسبوقة والشاملة، وظهور تكنولوجيات قادرة على تطوير الإنسان أو تحسين أدائه، دون التساؤل عن الحكمة من وراء هذا التطور، ولماذا لم يخلقنا الله كذلك إذا كان ذلك حقاً في مصلحتنا؟ لكن لأن البشر يحبون تفسير الأشياء وفق مصلحتهم، فغالباً ما تكون عملية التطور هذه مدفوعة بأسباب أخلاقية وطبية بالأساس، مثل زراعة الأطراف الصناعية للذين فقدوا أحد أطرافهم أو أُصيبوا بمرض تسبب لهم في نوع من الشلل، لكن وظائفها واستخداماتها التجارية وتحقيق الربح هو الهدف المنشود في النهاية بغض النظر عن الوازع الأخلاقي للطبيب، تماماً مثلما ظهرت جراحات التجميل إبان الحرب العالمية الأولى لمعالجة الجنود الذين تعرضوا لتشويه جراء الحرب، وأصبحت اليوم خدمة رائجة يمكن أن يحصل عليها جميع البشر حتى لو لم يحتاجوا إليها.
هاجس التطور
ومع تعاظُم الدور الذي تقوم به التكنولوجيا في الحياة اليومية لم يعد التفكير منصبا فقط على أطراف صناعية تعوض الأطراف الخلقية، بل طال أيضا شريحة ذكية تتم زراعتها داخل جسد الإنسان أو عقله، لا لتكون بديلاً عن الهواتف وبطاقات الدفع وكلمات المرور فحسب، وإنما تصبح أيضا عقلاً صناعياً يُضاف إلى قدرات العقل البشري الطبيعي، فينشأ عن هذا الدمج عقل ذو قدرات خارقة.
من يدري؟ فقد تمت زراعة أول شريحة في الجسد البشري منذ ما يقرب من ربع قرن من الزمان، وتحديداً في عام 1998، حينما قام كيفين ووريك، أستاذ علم التوجيه الآلي بجامعة كوفنتري البريطانية، بزراعة أول شريحة إلكترونية في يده. وعلى الرغم من أن تكنولوجيا الحوسبة لم تكن في السابق مثلما هي عليه الآن، ولم تتجاوز وظيفة الشريحة حينها وظيفة أي بطاقة لا تلامسية Contactless لا يتعدى ثمنها بضعة سنتات من الدولارات، ولم تكن أيضاً الوظائف التي قد تقوم بها هذه الشريحة متعددة مثلما هو الحال اليوم، فإنه لا أحد يعلم ما تتم تجربته الآن في المختبر ليتم الكشف عنه بعد ربع قرن آخر.
ومنذ نجاح أول تجربة في زراعة هذه الشريحة، شرعت الكثير من الشركات في زرع شرائح إلكترونية في أجساد الموظفين، لكن ليس لدواعٍ طبية، بل لدواعٍ تجريبية ووظيفية. ففي عام 2006 زرعت شركة “سيتي واتشر” -التي توفر خدمات المراقبة والاستطلاع بالفيديو ومقرها مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو الأميركية- رقاقتين في جسديْن من العاملين فيها. وأتاحت شركة Epicenter السويدية لموظفيها إمكانية زرع شريحة إلكترونية في حجم طابع البريد تحت جلد أيديهم، وذلك بشكل اختياري منذ عام 2015. وفي عام 2016، قالت شركة “دانجيرس ثينغس” -وهي إحدى شركات تصنيع الرقائق من هذا النوع- لشبكة "سي. إن. بي. سي" إنها باعت أكثر من 10 آلاف رقاقة، جنباً إلى جنب مع الأدوات والمعدات اللازمة لتثبيتها تحت الجلد.
وإثر اشتداد أزمة كوفيد - 19 طورت شركةDsruptive Subderma السويدية شريحة يتم زرعها في الأجساد البشرية وتحتوي على الشهادة الصحية الخاصة بالتطعيمات المطلوبة، بدلاً من الشهادات الورقية أو حتى تطبيقات الهواتف الذكية. فيكفي للشخص الذي يحمل هذه الشريحة أن يمرر يده لكي يستطيع دخول المناطق التي يتوجب على زوارها الحصول على التطعيم، مع العلم أن كلفة عملية زرع هذه الشريحة تقدر بحوالي 100 يورو، مع إتاحة الوصول إلى التحديثات المستقبلية والإصدارات الأكثر تقدماً، ومدة صلاحيتها قد تصل إلى 40 عاما.
◙ الفلسفة التي يراها إيلون ماسك قائمة على فكرة تشاؤمية مفادها أن الذكاء الاصطناعي سوف يتسبب في تدمير البشر
وفي الحقيقة فإن كافة استخدامات هذه الشرائح المزروعة تحت الجلد مازالت غير ذات جدوى حقيقية، فأي إنسان على كوكب الأرض بات يمتلك جهازاً أو أكثر يستطيع القيام من خلاله بوظيفة هذه الشريحة، سواء كان ذلك هاتفاً ذكياً أو ساعة أو سواراً أو حتى بطاقة لا تلامسية، لكن شغف البشر بالتطور البيوتكنولوجي هو الذي جعل البعض منهم يفضلون زراعة تلك الشريحة في أجسادهم، ويتبقى التطور الأكبر في عملية تطوير هذه الشرائح لكي ترتبط بالدماغ البشري.
حتى لا نظلم إيلون ماسك يتوجب القول إنه ليس الرجل الوحيد على الكوكب الذي يسعى لزرع شرائح في الأدمغة البشرية عبر شركة “نيورالينك” لكي تُكسب البشر قدرات فائقة، بل ليس هو الأنجح حتى الآن. وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن تتم تجربة شريحته الجديدة على البشر خلال عام 2023، بعد سلسلة من التأجيلات، فإن هناك شركة أخرى سبقته وأخذت موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية على بداية تجربة شريحتها على أدمغة البشر، وهي شركة Synchron الأسترالية.
فقد نجحت هذه الشركة في زرع أول شريحة لها في مريض أميركي خلال عام 2022، وسبق أن زرعت بالفعل هذه الشريحة في 4 مرضى في أستراليا، وقد تمكنوا من استخدامها في إرسال رسائل عبر تطبيق واتساب وكذلك التسوق عبر الإنترنت. وتلك الشريحة التي لا يزيد حجمها عن 1.5 بوصة، تسمح أيضاً للمرضى بالتواصل حتى بعد فقد القدرة على الحركة تماماً، من خلال استخدام الأفكار لإرسال رسائل إلكترونية إلى الأجهزة.
وهنا تكمن الفلسفة التي يراها إيلون ماسك قائمة على فكرة تشاؤمية مفادها أن الذكاء الاصطناعي سوف يتسبب في تدمير البشر، فهو لا يخطئ وقادر على التعلم السريع المستمر، وتحصيل جميع أنواع المعارف والعلوم والآداب بصورة تفوق أي طاقة بشرية ممكنة، وقادر أيضاً على مشاركتها مع غيره من نظم الذكاء الاصطناعي الأخرى، مُكوناً عقلاً صناعياً جمعياً، فما يدركه أحدهم يدركه الجميع.
ترقية الأدمغة
وهذا العقل سيكون بالطبع أذكى وأسرع من العقول البشرية بملايين المرات، وبمجرد إدراكه هذه الحقيقة سوف يتعامل مع البشر بدونية شديدة، فهم أقل منه ذكاءً ومهارة. ولا سبيل للحفاظ على ما سماه ماسك بـ"الإدراك البشري الخارق" أو Superhuman Cognition، إلا من خلال تطوير القدرات البشرية لكي تُساير قدرات الذكاء الاصطناعي، من خلال زرع شرائح ذكية داخل العقول والأجساد البشرية تُحسّن أداء عملها ووظيفتها في مواجهة قدرات الذكاء الاصطناعي، وبذلك نضمن عملية استمرار بقاء الجنس البشري في مواجهة الذكاء الاصطناعي.
وإذا تحدثنا عن الوازع الأخلاقي لهذه الشريحة، فهي سوف تعالج أمراضاً عديدة، مثل الخرف وأمراض الذاكرة واضطرابات الجهاز العصبي الحركية وإصابات النخاع الشوكي والشلل وتلف الدماغ والقلق والإدمان. وأيضاً ستخفف الآلام الحادة وتعالج جزئياً حالة فقدان البصر والسمع. بالطبع ليس هذا ما تقوم به هذه الشريحة حالياً، ولكن ما يُتوقع أن تقوم به في المستقبل.
◙ الحكومات السلطوية قد تكره مواطنيها على زرع شريحة في أجسادهم ليصبح المجتمع خاضعاً مسلوب الإرادة
أضف إلى هذه التوقعات أيضا إمكانية إنشاء جيوش من البشر يمكن السيطرة عليها فقط من خلال التفكير، أو السيطرة على عقول عدد كبير من الموظفين الموجودين في أحد المصانع ذات الترقية التكنولوجية الضعيفة ودفعهم إلى العمل ساعات طويلة في ظروف قاسية دون اعتراض، أو برمجة أطفال وطلاب في مرحلة الصغر على قيم محددة مثل الطاعة والولاء المطلق، أو حتى الشذوذ والانحراف، أو تقسيمهم إلى فئات وفقاً لاحتياجات المجتمع المستقبلية.
بل توقع كذلك أن تقوم إحدى الحكومات السلطوية بجعل هذه الشريحة إجبارية للمواطنين لدواع وظيفية وطبية وأمنية، لكنها في هذه الحالة تسعى في الحقيقة إلى السيطرة على عقول أفراد المجتمع حتى يصبح مجتمعاً خانعاً مسلوب الإرادة، طائعاً للسلطة، لا يتذمر أبداً وتمكن برمجته بسهولة، ويصبح المواطنون الذين رفضوا أن تتم زراعة هذه الشرائح في أدمغتهم متمردين وخارجين عن القانون ومصدر تهديد لهذا المجتمع ويجب التخلص منهم.
هذا المزج بين الكيمياء العضوية والتكنولوجية قد يفرز إنساناً مختلفاً بصورة كبيرة عن نظيره الحالي، فنحن لا نعلم ما سوف ينتج عن عملية التزاوج هذه، بين الكيمياء العضوية وبين الذكاء الاصطناعي، فكلاهما يتكيف ويتطور ويتغير بصورة أسرع من قدرتنا نحن كبشر عاديين على ملاحظتها أو حتى فهمها، فينتج عن ذلك نوع جديد من “البشر الخارق”؛ نصف إنسان ونصف آلة، فهو إنسان يمتلك أطرافاً صناعية صلبة، وعقلاً ذكياً ومتطوراً، وقلباً تم استبداله من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد، لكن مازالت له روح ويستطيع أن يتكاثر بل ويفنى أيضاً حتى ولو استطاع الطب مدفوعاً بالتكنولوجيا إطالة متوسط العمر.
إنسان السايبورج
صحيح أن هذه القدرة تسمح للإنسان بحمل الأشياء الثقيلة، والوجود في بيئات شديدة الصعوبة، والانتقال بسرعات عالية جدّا، وحل أعقد المشكلات، وحفظ الذكريات كافة، لكن حقاً هل يحتاج كل إنسان إلى مثل هذه القدرات؟ هل حقّا تود تذكّر تجربة سيئة مرت بك مثل فقدان عزيز عليك في حادث أليم؟ أم هل تود أن تمحيها تماماً من ذاكرتك وكأن هذا الشخص الذي تحبه لم يكن موجوداً في حياتك من قبل؟ إذا وجدنا حلاً وسطاً بين هذا وذاك، فهل ترغب في أن تتعرض ذكرياتك لمحاولات اختراق وتسريب أحلامك وشطحاتك وأخطائك كافة على الإنترنت، فتخسر جميع الأفراد؟ أم تصبح تحت رحمة شركات التكنولوجيا التي امتلكت هذه البيانات وبدأت في توجيهك والتحكم فيك كأنك سلعة لا تمتلك إرادتها؟
هل حينها ستستمتع بهذه القدرات الخارقة؟ أم ستنهار وقد ترغب في التخلص من تلك الحياة؟ أم ستفضل أن يتم إجراء “ضبط المصنع” على “دماغك السايبورجي”، فلا تعلم من أنت أو كيف بدأت إلا من خلال معلومات ضئيلة قرر مالكو الشريحة أن تعرفها عن نفسك، فيخبرونك بأنك العامل الذي يقوم باستبدال البطاريات من الروبوتات بعد أن كنت مديراً للشركة؟
◙ عام 1998 زرع كيفين ووريك، أستاذ علم التوجيه الآلي بجامعة كوفنتري البريطانية، أول شريحة إلكترونية في يده
وهل ستكون هذه القوة متاحة لكل البشر، أم لفئة محظوظة منهم؟ فإذا كانت لفئة محدودة فنحن أمام مجتمع ظالم قاسٍ، أما إذا طبقنا العدل وأتحناها للجميع فسوف يفسد هذا المجتمع وينتهي حتى قبل أن يكتمل لأنه حينها سيقتل الجميع بعضهم البعض، وإذا استطاع البشر الخروج من هذا المأزق بحل تكنولوجي آخر يضمن التوازن، فمن يضمن أن الذي يضع أصبعه على خط التوازن هذا لن يرفعه فجأة فينهار كل شيء، أو يبتز الأفراد من أجل ألا يسلبهم الحظ الذي مُنحوه؟
قد يجادل البعض بأن هذه القدرات الخارقة قد تكون مناسبة لرجال الإطفاء والمسعفين ورجال تنفيذ القانون وغيرهم من ذوي المهن الخطرة حتى تُمكنهم من القيام بوظائفهم على أكمل وجه، لكن قد يقوم نظام ذكاء اصطناعي خارق باختراق الشرائح المزروعة في عقولهم والسيطرة عليها وإعادة توجيههم من جديد لكي يصبحوا جيشاً له، يفرضون سيطرتهم على الجميع بما امتلكوا من قدرات خارقة.
وفي النهاية، هذا الإنسان الذي أنشأ حضارة بابل والحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية بكل علومها وفنونها، وابتكر الآلات وصنع لها عقلاً، واستطاع أن يُحلق في الهواء ويغوص في أعماق البحار ويطأ بقدمه الكواكب، هو بالفعل امتلك من القدرات الخارقة ما يغنيه عن غيرها، وأي تطوير غير ضروري لهذه القدرات هو في الحقيقة إنقاص لقدراته الحقيقية وتحجيم لها.
* المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة