تراخيص البث تهدد صناعة التطبيقات الرقمية في مصر

قرب إصدار تشريع “يُلزم أي منصة ترغب في الوجود بمصر على الهواتف المحمولة بالحصول على ترخيص قانوني” يثير جدلا واسعا حول مساعي الحكومة المصرية لإحكام السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كمحاولة للحد من الحرية.
القاهرة - أثارت تصريحات أدلى بها رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر كرم جبر أشار فيها إلى قرب إصدار تشريع “يُلزم أي منصة ترغب في الوجود بمصر على الهواتف المحمولة بالحصول على ترخيص قانوني”، جدلاً واسعًا في أوساط إعلامية وتكنولوجية، ومخاوف من وجود تهديدات حقيقية لصناعة تطبيقات الهواتف الذكية التي أخذت تتنامى في مصر خلال السنوات الماضية.
وجاءت تصريحات جبر أثناء اجتماع لجنة التعليم وتكنولوجيا المعلومات التابعة لمجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) قبل أيام، وأكد فيها أن التشريع سيصدر قريبًا ويستهدف تنظيم عملية البث الرقمي للمنصات المختلفة التي يطرح بعضها قضايا تدعم التطرف وتشجع على المثلية الجنسية.
ولم يوضح جبر، الذي يرأس المجلس المسؤول عن تنظيم عمل وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، ما إذا كان الهدف يرتبط بتنظيم بث المنصات التلفزيونية أم يستهدف الآلاف من التطبيقات الرقمية التي تعمل داخل مصر، وتبلغ الاستثمارات السنوية فيها نحو 600 مليون دولار، حسب أرقام وزارة الاتصالات في مصر.
وأصدر المجلس الأعلى للإعلام بيانًا في سبتمبر الماضي لفت فيه إلى إلزام منصات المشاهدة، مثل نتفليكس وديزني، بـ”أعراف وقيم الدولة المصرية”، وحذر من أنه سيقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة عند بث محتوى يتعارض مع القيم الأخلاقية المصرية، وآنذاك طرحت تساؤلات عدة حول إمكانية إخضاع تلك المنصات للقواعد والإجراءات التي تفرضها القوانين المحلية.
ويرى خبراء أن اتجاه المجلس الأعلى للإعلام لا ينفصل عن مساع حكومية لإحكام السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كمحاولة للحد من الحرية التي تتيحها للمواطنين بلا رقابة متينة، علاوة على إمكانية الاستفادة من وجود شريحة واسعة من المصريين تستخدم تلك المواقع وإخضاعها لمنظومة الضرائب.
وأجرى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تعديلات على لائحة التراخيص، وضم إليها شركات تكنولوجيا المعلومات الاجتماعية، وعرّفها بأنها الشركات التي تدير المنصات أو المواقع الإلكترونية التي تقدم أو تستضيف الخدمات الإخبارية أو الإعلامية أو التي تبث أو تعرض الأعمال الفنية لأغراض ربحية وتسمح بتمكين المستخدمين من تداول أو مشاركة أي محتوى إخباري أو إعلامي مع مستخدمين آخرين أو بإتاحة هذا المحتوى للتداول أو المشاركة بين الجمهور على المنصة ذاتها أو الموقع الإلكتروني نفسه.
وأصبح المجلس معنيًا بمنح تراخيص للمواقع الإلكترونية الإخبارية، والمواقع الصحفية، والمنصات الفضائية والرقمية المشفرة، بجانب تلك الشركات، وألزمها بالحصول على ما يُعرف بـ”شهادة الاعتماد”، وهي شهادة تصدر عن المجلس الأعلى للإعلام وتفيد باستيفاء جميع المتطلبات الفنية والقانونية والتنظيمية التي بموجبها يُسمح بمزاولة النشاط داخل الأراضي المصرية.
وتتضمن تلك الشهادة موافقة من جانب مسؤولي إدارة المنصة الرقمية على قبول إزالة أي محتويات ضارة تحددها لائحة الترخيص، من بينها تلك التي تحض على الكراهية، أو تسيء إلى الأفراد أو مؤسسات الدولة وبما يهدد السلم والأمن الاجتماعي، كذلك المحتوى الذي يتضمن التمييز أو الحض على ارتكاب أفعال تنتهك حقوق الإنسان وتمس بكرامته، ويتضمن معلومات زائفة أو شائعات شخصية أو عامة.
اتجاه المجلس الأعلى للإعلام لا ينفصل عن مساع حكومية لإحكام السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي
وقال الخبير في الإعلام الرقمي خالد برماوي إن “قوانين تنظيم عمل المنصات الرقمية موجودة وسبق أن أقرها المجلس الأعلى للإعلام، لكن وقع تأخير في إصدار لوائحها التنفيذية وثمة إدراك لصعوبة تطبيقها على أرض الواقع، خاصة إذا كان الوضع مرتبطا بالمنصات التي تبث من الخارج وموجهة إلى الجمهور المصري، وهناك إشكاليات قانونية ومهنية وإعلانية عديدة يواجهها العالم أجمع في التعامل مع المنصات”.
وأوضح لـ”العرب” أن “تصريحات رئيس المجلس الأعلى للإعلام تتضمن خلطًا بين المنصات الرقمية الإعلامية وتبث محتويات تخضع لسلطته وبين المنصات الرقمية التي تخضع في تنظيمها لجهاز تنظيم الاتصالات التابع لوزارة الاتصالات، ما يشير إلى وجود حالة من الضبابية مازالت تسود التعامل القانوني والتشريعي في ضبط عملها”.
ورفض برماوي التسليم بوجود رغبة في تقييد حرية المعلومات على الإعلام الرقمي من قبل هيئات حكومية، معتبرا أن تطبيق القوانين المنتظرة سيكون حاسمًا بشأن النوايا والأهداف.
وهناك دول كثيرة أصدرت تشريعات بهدف ضبط عمل المنصات وكانت تستهدف تنظيم عملها، إضافة إلى أنظمة أخرى كانت تستهدف التحكم في ما يتم بثه من محتويات.
ويضع مجلس الإعلام المصري نصب عينيه ضبط المحتويات المقدمة لما يقرب من ثمانية ملايين مصري يشتركون في منصات لها علاقة بالبث الرقمي، وسط مخاوف متجددة من أن تصل المنصات إلى مستوى تتفوق فيه من حيث التأثير على الإعلام التقليدي الذي يخضع لرقابة حكومية صارمة، خاصة مع التصاعد السريع في سوق المنصات الرقمية الذي بات يشكل عاملا لجذب المستثمرين بعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية التي تراجع دورها وتأثيرها.
المجلس الأعلى للإعلام لم يوضح ماهية الإجراءات التي يمكن أن يتخذها تجاه منصات رقمية موجهة إلى الجمهور المصري وتعمل من الخارج
ويؤكد خبراء الإعلام أن الاتجاه إلى إقرار المزيد من التشريعات في مصر لن يُحدث نقلة نوعية أو فارقا في مستوى تغيير بيئة عمل المنصات الرقمية، مع عدم وجود آليات قادرة على تطبيقها، ومن الأفضل إقرار مدونات سلوك تتعلق بالمضمون الرقمي لمحاولة ترشيد استخدام المحتوى والاستفادة من إمكانات التكنولوجيا الحديثة، والحد من المواد التي تشكل ضررا على الدولة والمجتمع.
وذكر خبير مصري في الإعلام الرقمي لـ”العرب” أن “تصريحات رئيس المجلس الأعلى للإعلام ليست لها صلة بالواقع الحالي، وإذا صمم المجلس على تنفيذ مخططه فإن مصر ستصبح بيئة طاردة لاستثمارات تطبيقات الهواتف الذكية، في وقت بدأ فيه البعض من المستثمرين يتجهون نحو دول عربية لديها بيئة عمل أكثر استقلالية”.
وأكد أن المجلس لم يوضح ماهية الإجراءات التي يمكن أن يتخذها تجاه منصات رقمية موجهة إلى الجمهور المصري وتعمل من الخارج، وفي تلك الحالة عليه التدخل لحظرها من خلال أنظمة الاتصالات الرقمية مثل أندرويد، وهو أمر غير منطقي ولن يحقق الأهداف المرجوة، وربما يؤدي الحظر إلى المزيد من الإقبال على تلك المنصات التي يمكن الوصول إليها بسهولة عبر برامج فك الحظر المتعددة.
وسمحت حالة السيولة التي تتمتع بها المنصات الرقمية بوجود محتويات تمثل تهديدا لخطط الحكومة المصرية، ويمكن وصفها بأنها “ضارة مجتمعيًا”، ما يتطلب تدخلاً يسهم في تصويب وضبط ما تبثه من محتويات. لكن ثمة قناعة بأن إجراءات القبض على بعض المؤثرين على تطبيق تيك توك ويوتيوب مؤخرا ومواجهتهم باتهامات تتعلق بالحض على الفسق والفجور لم تأت بنتائج إيجابية، بل مثل هذه المحتويات تعددت وانتشرت وتوسعت كثيرا، ما يفرض ضرورة تغيير أساليب المواجهة والاعتماد على إنشاء قواعد فكرية تحصن متابعي تلك المحتويات دون حظرها.