تراجع الولادات في تونس يعكس تغير طريقة النظر للزواج والإنجاب

العزوف عن الزواج وارتفاع كلفة الطفل وراء انخفاض نسبة الخصوبة.
السبت 2023/12/09
أغلب الأسر أصبحت تكتفي بطفلين

يُرجع خبراء علم الاجتماع تراجع الولادات في تونس إلى تقلص عدد الزيجات نتيجة ارتفاع كلفتها من جهة وتراجع القيمة الاجتماعية لمؤسسة الزواج من جهة أخرى؛ ذلك أن الزواج لم يعد أولوية لدى المرأة والرجل. كما أن هناك عاملا اقتصاديا يتمثل في أن تنشئة الطفل أصبحت مكلفة. ويعكس تراجع الولادات ثقافة تغيرت لدى التونسيين واختيارات متبناة.

تونس - سجلت تونس خلال السنوات الأخيرة (من 2017 إلى 2021) تراجعا هامّا في عدد الولادات الجديدة في مختلف جهات الجمهوريّة بنسبة فاقت 23 في المئة، وفق ما كشفه المعهد الوطني للإحصاء، ما يعكس تغيرا في العقليات والاختيارات.

وأشار المعهد في النشريّة الإحصائيّة السنويّة لتونس إلى أنّ عدد الولادات الجديدة قد بلغ سنة 2021 أكثر من 160 ألف ولادة مقابل أكثر من 209 آلاف ولادة خلال 2017.

وسجّلت ولايتا (محافظتا) صفاقس وتونس أكبر عدد من الولادات خلال الفترة نفسها باعتبارهما من أكثر الولايات الآهلة بالسكّان، حيث بلغ عدد الولادات في الجهتين خلال 2021 أكثر من 13 ألف ولادة جديدة بكلّ ولاية.

ويُؤثّر هذا التراجع بشكل كبير في التركيبة السكّانية بتونس التي تتّجه نحو التهرّم، خاصّة بعد انتهاء مرحلة الانتقال الدّيمغرافي في 2010.

واعتبرت مديرة الإحصائيات الديمغرافية بالمعهد الوطني للإحصاء هدى بوهلال أن التراجع يعكس وضعية اجتماعية وثقافية واقتصادية وتفكير مجتمع بأكمله، مشيرة إلى أن ذلك مرتبط أكثر بعامل الزواج وسن المرأة المتزوجة.

وقالت في تصريح لإذاعة محلية “لاحظنا مؤخرا انخفاض معدل الزواج إما بسبب الأوضاع الاقتصادية أو الاختيارات الفردية. كما أن الزواج لم يعد من أولويات المرأة، كما تراجع معدل الخصوبة خلال السنوات الأخيرة”.

تراجع عقود الزواج في البلاد ساهم في تراجع نسق الولادات مخلفا تأثيرات ديمغرافية على المجتمع

وأضافت أن “هناك عاملا اقتصاديا أيضا يتمثل في أن الطفل أصبح مكلفا وأصبحت هناك ثقافة معينة تم تبنيها في مجتمعنا. وتراجع الولادات يعكس ثقافة تغيرت لدى التونسيين واختيارات وقع تبنيها”.

وقالت بوهلال “كل زواج جديد يعني ولادة جديدة إحصائيا، وبالتالي ساهم تراجع عقود الزواج في البلاد في تراجع نسق الولادات مخلفا تأثيرات ديمغرافية على المجتمع، الذي قد يتجه أكثر نحو تهرم السكان خلال السنوات القادمة إذا استمرت معدلات الزواج منخفضة”.

واعتبرت بوهلال أن تحسن الخدمات الصحية وارتفاع أمد الحياة من العوامل التي أثرت بدورها على التركيبة الديمغرافية للمجتمع، حيث ارتفعت نسبة كبار السن مقارنة بنسبة الشباب والأطفال في المجتمع.

بدوره أرجع الباحث في علم الاجتماع، فؤاد الغربالي، التغيرات الديمغرافية الحاصلة في تونس ودخولها في مرحلة التهرم السكاني إلى عوامل اقتصادية وأخرى اجتماعية، مشيرا إلى أن تراجع القيمة الاجتماعية لمؤسسة الزواج ساهم في لجوء الأفراد إلى خيارات بعيدة عن التزامات العائلة والأقارب، حيث أصبحوا يستمدون الاعتراف في المجتمع من سرديتهم الفردية ونجاحهم العلمي والمهني على حساب ما تقدمه مؤسسة الزواج من اعتراف اجتماعي، كما أن تقلص الوصم الاجتماعي لغير المتزوجين خاصة من الرجال ساهم بدوره في تراجع معدلات الزواج.

تراجع القيمة الاجتماعية للزواج ساهم في لجوء الأفراد إلى خيارات بعيدة عن التزامات العائلة، ما قلّص عدد الزيجات

وأوضح الغربالي أن نجاح النساء في المجتمع لم يعد مرتبطا بمؤسسة الزواج بل ارتبط أكثر بخروجهن للعمل وتحقيق الاستقلال الاقتصادي.

وأضاف الباحث في علم الاجتماع أن الجوانب الاقتصادية ساهمت أيضا في تراجع عقود الزواج في تونس بعد عزوف الكثير من الرجال عن الارتباط في السنوات الأخيرة جراء الأزمة الاقتصادية الحادة ولجوء الآلاف منهم إلى الهجرة.

وسجّل عدد عقود الزواج في تونس ارتفاعا ملحوظا خلال 2021 مقارنة بسنة 2020 إذ بلغت النسبة 9 في المئة، ليصل عدد الزّيجات حسب المعهد إلى أكثر من 71 ألفا سنة 2021 مقابل 65 ألفا سنة 2020.

ورغم هذا التطوّر الإيجابي فإنّ النسق العام يتّجه نحو الانخفاض، إذ تراجع عدد الزيجات بحوالي 25 في المئة خلال خمس سنوات (2017 ـ 2021) لينخفض من 95 ألفا سنة 2017 إلى 71 ألف زيجة في 2021.

وكشفت أرقام نشرها المعهد الوطني للإحصاء تراجعا كبيرا في عدد عقود الزواج خلال السنوات الخمس الأخيرة 2016 ـ 2020 بنسبة 33 في المئة ليصل عدد عقود الزواج إلى 65 ألفا و630 عقدا في سنة 2020 بعدما كان في حدود 198 ألفا و125 عقدا في سنة 2016.

سنة 2020 شهدت أعلى نسبة انخفاض في عدد الزيجات بلغت 21 في المئة

وأشارت النشرة الإحصائية لتونس بالنسبة إلى السنوات 2016 – 2020 إلى أن سنة 2020 شهدت أعلى نسبة انخفاض في عدد الزيجات بلغت 21 في المئة ليصل العدد إلى 65 ألفا و630 عقدا بعدما كان في حدود 83 ألفا و105 عقود في سنة 2019.

وقد رافق هذا المنحى التنازلي لعدد الزيجات في تونس تراجع هام في عدد الولادات خلال الفترة من 2016 إلى 2020 بنسبة 20.6 في المئة.

وانخفض عدد الولادات، حسب النشـرة الإحصائية السـنوية لتونس، من 219 ألفا و400 ولادة سنة 2016 إلى 174 ألفا و100 ولادة سنة 2020.

ومن شأن هذا التراجع أن يؤثر بشكل كبير على التركيبة السكانية في تونس التي تتجه نحو التهرم خاصة بعد انتهاء مرحلة الانتقال الديمغرافي في سنة 2010.

ويشهد المجتمع التونسي تحوّلات واضحة في سياسة الإنجاب تتجلى في تقلص عدد الأطفال بعد أكثر من 60 عاماً من بدء السلطات تنفيذ سياسة “تحديد النسل”، إذ أصبح الأزواج الشبان أكثر اقتناعاً بإنجاب طفل واحد، أو طفلين على أقصى تقدير، رغبة في توفير ظروف حياة أفضل لأطفالهم.

نجاح النساء في المجتمع لم يعد مرتبطا بمؤسسة الزواج بل ارتبط أكثر بخروجهن للعمل وتحقيق الاستقلال الاقتصادي

وتفيد أحدث الإحصائيات الرسمية بأن نسبة الخصوبة انخفضت بشكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013، وفق بيانات معهد الإحصاء الحكومي، وتعد المباعدة بين الولادات وتأخر سن الزواج من بين أبرز المؤشرات في هذا السياق.

ونسبة الخصوبة تعني عدد الولادات الجديدة لكلّ ألف امرأة في سنّ الإنجاب في الفئة العمرية من 15 إلى 49 سنة، أيا كانت حالتهن المدنية، سواء كن عازبات أو متزوجات أومطلقات أو أرامل.

وتقول الباحثة التونسية المختصة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي إن “توجه الأسرة التونسية نحو الاكتفاء بطفل واحد، أو طفلين، هو نتيجة للتطوّر التاريخي لسياسة تحديد النسل التي عرفتها تونس قبل أكثر من ستة عقود”، معتبرة أن “السياسات الاجتماعية التي تفرضها الحكومات تتطور بطبعها، وربما تتخذ أشكالاً جديدة، وتتحول إلى قرارات فردية”.

وتؤكد الجلاصي أن “الضغوط المعيشية المتزايدة ومتطلبات المجتمع الجديدة تؤثر بدورها على قرار الإنجاب لدى الأسر، فاللجوء إلى تقليص الإنجاب، أو التباعد بين الولادات، من الظواهر التي تعيشها كل المجتمعات التي تمر بصعوبات معيشية، لاسيما إذا اقترن ذلك بمستويات جيدة من الوعي والتعليم”.

وتعد مسألة تراجع الولادات مشكلة عالمية؛ ففي حين تجاوز عدد سكان العالم 8 مليارات شخص في عام 2022 تشير آخر الأرقام إلى تراجع عدد الولادات في مختلف بقاع العالم.

ويلفت معهد الإحصاء في الاتحاد الأوروبي إلى إنجاب الأوروبيين عددا أقل من الأطفال مقارنة بالماضي، حيث تسجل فرنسا أعلى معدل للخصوبة في الاتحاد الأوروبي بـ1.83 طفل لكل امرأة.

وجاءت رومانيا في المركز الثاني، تليها أيسلندا والتشيك، حيث تلد النساء في المتوسط 1.70 طفل.

فيما تشترك البلدان الأوروبية الأخرى التي يتناقص عدد سكانها (إيطاليا والبرتغال وبولندا واليونان) في معدلات خصوبة منخفضة، تتراوح بين 1.2 و1.6 طفل لكل امرأة.

15