تراجع الثقة في التعليم الحكومي يحول المنازل التونسية إلى مدارس موازية

خبراء يحذرون من تقمص أولياء الأمور دورَ المعلمين.
الاثنين 2024/05/20
المنظومة التربوية تشتكي من نقائص عديدة

أدى تراجع دور المنظومة التربوية جراء مخاطر عدة اقتحمت المدرسة التونسية خلال السنوات الأخيرة، كالعنف والتسرب المدرسي وتراجع هيبة المربي، إلى بروز أزمة ثقة بين المدرس وأولياء أمور التلاميذ الذين حولوا منازلهم إلى مدارس موازية من أجل تدارك ثغرات التحصيل العلمي لأبنائهم، وهو ما حذر منه بشدة خبراء التربية وعلماء الاجتماع.

تونس - يجد الكثير من أولياء الأمور اليوم أنفسهم مضطرين إلى الاضطلاع بدور المدرسين من أجل تدارك ثغرات التحصيل العلمي لأبنائهم، ما حول منازل العديد من العائلات التونسية إلى مدارس موازية.

وتحدث أولياء أمور تلاميذ لوكالة تونس أفريقيا للأنباء عن اهتمامهم منذ انطلاق السنة الدراسية بمتابعة الدروس المسجلة في فيديوهات تعليمية يقدمها أساتذة، وانخراطهم في مجموعات ومنصات تعليمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعج شاشات هواتفهم بتلاخيص لمختلف الدروس، من أجل التمكن من تقديم الدعم لأبنائهم.

واعتبر مختصون في التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس أن ذلك بُرهان على تعاظم المعاناة من اهتراء المنظومة التربوية.

ويعدّ لجوء أولياء الأمور إلى تدريس أبنائهم خطأ مدمرا للتلميذ، وفق توصيف الخبير في التربية رؤوف حمدي، الذي أكد أن التعليم يتطلب كفاءات بيداغوجية في إيصال المعلومة وتقنيات وتدرّجا خصوصيا، لا يلمّ بها ولي الأمر حتى ولو كان مستواه التعليمي عاليا.

المنظومة التقييمية في المدرسة التونسية من بين أهم العوامل التي تسبب ضغطا كبيرا على التلاميذ وأولياء الأمور

وشدد الخبير على أن تصرّف هؤلاء الأولياء قد يمكّن التلاميذ من الحصول، في بعض الحالات، على أعداد جيّدة في الامتحانات، لكن غالبا ما تكون إجاباتهم مٌسقطة، ولا تستند إلى تفكير وتمشّ منطقي، وهو ما يفسر سرعة نسيان التلميذ كل المعلومات الملقّنة أياما قليلة بعد انتهاء الامتحانات.

وفي حالات أخرى يمثل إيمان عدد من أولياء الأمور بأن لمنظوريهم إمكانيات ذهنية متميزة تفوق المعدلات التي يتحصّلون عليها خلال السنة الدراسية، دافعا إلى تكثيف دروس المراجعة بالمنزل والانكباب على متابعة أبنائهم، سعيا منهم إلى البرهنة على هذه الحقيقة.

وقالت أم إن ابنتها المرسّمة بالسنة السادسة من التعليم الابتدائي تتقد ذكاء ولها القدرة على التفوق في مناظرة الالتحاق بالمدارس الإعدادية النموذجية، إلا أنّها لا تتمتع بالتكوين والتدريب الجيّدين كمّا ونوعا داخل القسم.

وأكدت أنها لمساعدة ابنتها على الحصول على نتائج جيدة، قامت بضبط برنامج تعليمي بالمنزل يتناسب مع جدول أوقات الدراسة، حيث تقوم يومي الأربعاء والجمعة مساء بتدريبها على اللّغات فيما يتكفل والدها بتدريسها المواد العلمية في نهاية كل أسبوع.

وانتقد الخبير في التربية سلوك هذه الفئة من أولياء الأمور “التي تصب كل اهتمامها فقط على التعلّم والحصول على معدلات ممتازة بغض النظر عن التداعيات النفسية لهذا التصرف على التلاميذ”، معتبرا أن تفكير هؤلاء الأولياء ضيّق ويلحق ضررا كبيرا بالأبناء على مستوى بناء الشخصية.

وأرجع هاجس تحقيق نتائج دراسية جيدة باعتماد كل الطرق لدى هذه الفئة من أولياء الأمور إما إلى “عقلية مرضية قائمة على التنافسية والتباهي بتفوق الأبناء داخل العائلة والمجتمع، أو جراء التخوف من الفشل وما ينجر عنه من معاناة من الوصم والتنمر”.

وقال حمدي لوكالة تونس أفريقيا للأنباء إن من المفارقات العجيبة في تونس أن ترى عددا كبيرا من التلاميذ الحاصلين على علامات متميزة لكنهم غير قادرين على التواصل والتفاعل مع الآخر، ويفتقرون إلى مهارات التخاطب والتحاور والاندماج داخل المجموعة.

أفق التعليم الحكومي أضحت ضيقة
أفق التعليم الحكومي أضحت ضيقة

وتنص مبادرة المهارات الحياتية والتعليم من أجل المواطنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على ضرورة اتباع نهج شامل للتعليم يأخذ المتعلم ككل بعين الاعتبار من خلال إقرار تعددية التعليم التي لا يقتصر دورها على المعرفة والإدراك بل يشمل أيضاً الجوانب الفردية والاجتماعية، خاصة في ما يتعلق بإدارة الذات وصنع القرارات والتفاوض وحل المشكلات والتفكير النقدي والإبداع والمشاركة.

وشددت المتفقدة البيداغوجية نجاة حسني على أن المنظومة التقييمية في المدرسة التونسية من بين أهم العوامل التي تسبب ضغطا كبيرا على التلاميذ وأولياء الأمور، حيث تحدث شرخا بين التلاميذ وتصنفهم تصنيفا غير عادل لا يستوعب اختلاف الذكاء لديهم وتحكم على بعضهم أحكاما مسبقة ومهينة، وفق توصيفها.

ولا تكتفي فئة من أولياء الأمور بتقمّص دور الأستاذ كلما استوجب الأمر، وإنّما تفتح البيوت لاستقبال مدرّسين في عدد من المواد لتقديم دروس خصوصية فردية تتماشى تماما مع صعوبات التعلم التي يعاني منها أبناؤهم، إذ أن الدروس الخصوصية ضمن مجموعة كبيرة من التلاميذ لا تفي بالغرض.

وتفسّر المختصة في علم الاجتماع التربوي إيمان دعدوش تدخّل أولياء الأمور في الشأن التعليمي بشتى الطرق وعدم اكتفائهم بما يتلقاه التلميذ داخل القسم، ببروز أزمة ثقة بينهم وبين المدرسة، وتراجع دور المنظومة التربوية جراء مخاطر عدة اقتحمت المدرسة التونسية خلال السنوات الأخيرة، كالعنف والتسرب المدرسي وتراجع هيبة المربي.

وأوضحت دعدوش أن المدرسة العمومية كانت خلال السبعينات الفاعل الوحيد الذي يؤمّن العملية التعليمية لتظهر خلال سنوات التسعين مسالك جديدة للتعليم انطلقت بالمدرسة الخاصة أو ما يسمى بمدرسة السوق التي تقوم على العرض والطلب، لينتشر بعد ذلك مسلك ثالث للتعليم يتمثل في الدروس الخصوصية.

ولاحظت أن تونس شهدت في السنوات الأخيرة بالتزامن مع أزمة كورونا بالخصوص صعود مسلك رابع في التعليم وهو “التعلم عن بعد”، فتزايدت المضامين التعليمية الإلكترونية التي لجأ إليها أولياء الأمور والتلاميذ المنتمون إلى الطبقة الوسطى كبدائل تعليمية غير محصورة في جدران المدرسة.

واعتبرت دعدوش أن ضعف التحصيل العلمي للتلاميذ داخل القسم ناجم عن عدة أسباب، لكن يمكن تفسير نسبة من ذلك بفشل بعض الأساتذة في توزيع المعرفة بصفة عادلة ومتكافئة على مختلف مستويات التلاميذ، مبينة أن هذا لا يعود فقط إلى إخلال في أداء الأستاذ وإنما إلى عدة إكراهات وعراقيل تمنعه من أداء واجبه على أكمل وجه.

الرهان على التعليم الخاص يحصر آفاق القطاع
الرهان على التعليم الخاص يحصر آفاق القطاع الحكومي

ويعاني المدرّس من اكتظاظ كبير في القسم الواحد، مع اختلاف المستويات التعليمية للتلاميذ وتنوع صعوبات التعلم لدى مجموعة منهم، في وقت يطالَب فيه بإتمام برنامج تعليميّ طويل، أجمع كل خبراء التعليم على أنه يستنزف القدرات الذهنية للتلاميذ دون تحقيق فاعليّة كبرى.

واعتبر عضو اللجنة الدولية حول مستقبل التعليم ورئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان عبدالباسط بن حسن أنّه لا يمكن إلقاء كامل اللّوم على المدرسين في علاقة بتدني مستوى أدائهم داخل القسم، عندما يغيب التكوين المستمر الذي يمكّنهم من تثبيت معلوماتهم وتحيينها وتطويرها وإثرائها.

وقال “حريّ بالأستاذ أن يكون مثقفا ومواكبا لمختلف الابتكارات والتجديدات في المجال البيداغوجي، وألا يكتفي بإتقان مادة معيّنة بل جميع الاختصاصات الأخرى المتقاطعة مع اختصاصه مثل اللّغات والتكنولوجيات الحديثة وعلم نفس الطفل والمراهق”.

بدوره، حذّر المختص في علم النفس ورئيس جمعية صعوبات التعلم طارق السعيدي من التداعيات الخطيرة للضغوط التي يتعرض لها التلميذ جراء كثرة ساعات الدراسة التي يقضيها داخل المدرسة وخارجها، موضّحا أنّه في هذه الحالة يتعرّض دماغ الطفل لهجوم كمّ هائل من المعلومات.

ويجابه دماغ الطفل هجوم الكمّ الهائل من المعلومات بالهروب ما يسبّب له تشتّت الانتباه وقلّة التركيز، وهو ما يفسّر تراجع قدرته على الفهم والاستيعاب داخل القسم، وفق المختص الذي أشار إلى أن هذه الوضعية تدفع أولياء الأمور إلى مضاعفة جهودهم لتلافي هذه المعضلة، اعتمادا على مسالك إضافية للتعليم، فيبقى التلميذ الضحية يدور في الحلقة المفرغة نفسها.

ولاحظ المختص أنّ عددا كبيرا من التلاميذ يقضّون ساعات طويلة في الدراسة خارج أسوار المدرسة، بمعدل يفوق ساعات الزمن المدرسي الذي ينتقده الخبراء والمهتمون بالشأن التربوي، منبّها إلى أنّ هذا الوضع يستنزف طاقة الطفل ويهدر وقت فراغه ويحرمه من الترفيه واللّعب وممارسة الهوايات، وهو ما يؤثر على توازنه النفسي بشكل يدعو إلى القلق.

16