تراث أمة تفجره جماعة خرجت من كهوف الظلام

القاهرة - تعرّض صباح يوم 24 يناير الجاري، متحف الفن الإسلامي، بمنطقة “باب الخلق”، في قلب القاهرة التاريخية، للتدمير بالكامل، إثر التفجير الذي استهدف مديرية أمن القاهرة. عملية استنكرها الجميع ندّد بها كل الفنانين والمثقفين، نظرا لما يحظى به هذا المتحف من أهميّة تاريخية وتراثية. إذن حدث الانفجار، فتناثرت أشلاء التاريخ، منصهرة ومتكسرة تحت الأنقاض، في صورة عبثية محزنة إلى حدّ البكاء.
ترجع أهمية متحف الفن الإسلامي إلى كونه أكبر متحف إسلامي فني في العالم؛ حيث يضمّ ما يزيد على 100 ألف قطعة أثرية متنوعة من الفنون الإسلامية من تركيا والهند والصين وإيران مرورا بفنون الجزيرة العربية والشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس.
الصمت هو الفاعل الحقيقي أمام دويّ الانفجار، دمع متحجر في المقل أمام تاريخ يضيع بأيدي من يدّعون أنهم أبناؤه، حقيقة هذا التاريخ لا يخصنا فقط كمصريين أو كعرب ومسلمين، بل يخص العالم أجمع، عالم استمتعت عيونه بهذا السيف المطرز بالأحجار الكريمة، بهذا الخنجر المزخرف باسم صاحبه، بتلك “الفازة” التي تحمل نقوشات توضح المدى الذي بلغه الفن الإسلامي في عدة عصور مختلفة، فبعد دخولك من البوابة الإلكترونية التي وضعت في مدخل المتحف الإسلامي ستنسى الضجيج الذي يصدر من الشارع بكل ما يحمله من أصوات مزعجة ليعود إليك هدوؤك الداخلى بعد أن تقع عيناك على نافورة صغيرة من العصر المملوكي وبمجرد أن ترفع عينيك عنها ستجد نفسك انتقلت إلى العصر الأموي حيث نسخة كبيرة وضخمة من القرآن الكريم.
كان عصر الفاطميين عصر ازدهار اقتصادي انعكس على منشآتهم المعمارية والفنون الفرعية من خزف ونسيج وأخشاب
قفا نبك
وحاول ألا يسرقك الوقت وأنت تتأمل دلفة شباك من الخشب الملون يعود إلى العصر المملوكي، لأنك وقتها ستتساءل: من قام بصنع هذه الدلفة؟ هل كان يرسم لوحة فنية شديدة الجمال دون أن يدري أم أن مهنة النجار كانت تتطلب أن يكون صاحبها فنانا بالفطرة؟، وبجوارها قطع غاية في الروعة وهي أجزاء الطبق النجمي من خشب مطعّم بالعاج.
|
وأيضا تخيّل نفسك تمشي على بلاطات الخزف التركي التي تجمع بين الأشكال العديدة والمختلفة فمنها ما هو على شكل عقد مدبب، أو عليها رسوم نباتية من أوراق وزهور تركية.ولم يكن الاهتمام في العصور الإسلامية المختلفة بفن العمارة فقط، وإنما أيضا بالعلم، فهناك لوحة تشريحية تمثل معلما يشرح لتلاميذه كيفية التشريح، حيث ازدهرت الصناعات والفنون عندما قام العثمانيون بنقل أرباب الصناعات من البلاد التي فتحوها وخاصة مصر إلى عاصمتهم اسطنبول، فأسسوا الكثير من المنشآت المعمارية وخاصة في مصر مثل القصور والجوامع والأسبلة والكتاتيب، والوكالات التجارية والمنشآت الحرفية التي كانت منظمة في طوائف متنوعة.
جامع الفنون
وفي مجال الفنون برعوا في صناعة الخزف من أدوات متنوعة مثل الأطباق والزهريات والبلاطات الخزفية ذات الزخارف النباتية من أوراق وزهور عديدة ذات ألوان جذابة، وصناعة المنسوجات الحريرية والسجاد بأنواعه المختلفة التي تميزت بألوانها المتناسقة وزخارفها الجميلة ووبرتها المتينة ذات العقد المعروفة. يعتبر عصر المماليك العهد الذهبي للفنون والعمارة الإسلامية لأنه عصر رخاء وازدهار اقتصادي، وتلمس ذلك من خلال عمائرهم العظيمة من مساجد ومنازل وخنقاوات ووكالات ومدارس، وكذلك من التحف الموجودة بمتحف الفن الإسلامي من شمعدانات وكراسي عشاء وصوان وأباريق وزهريات وغيرها من التحف المعدنية المكفتة بالذهب والفضة، بالإضافة إلى الأبواب والتحف الخشبية المطعمة بالعاج والصدف والمشكاوات الزجاجية المموهة بالمينا وغيرها.وقريبا من كل هذا ستجد لوحا من الخشب حفرت عليه كتابات نسخية رائعة، ولوحات من الرخام عليها كتابات بالخط الكوفي، وأيضا شاهد قبر من الرخام باسم ابن سهيل، وإفريز على شكل مروحة نخيلية، وخشب محفور وملون من العصر الفاطمي، ومشربية خارجة تتكون من خشب منحوت ومقطوع ومصنوع. حاول أن تتخيل كمّ الجمال والروعة في أن تنظر من مشربية بهذا الرونق، ثم تذكر أن الوقت يمرّ وأنت لم تر بعد ُكل كنوز المتحف فلا يسرقنك الوقت وأنت تتأمل روعة السجاد والتي تتكون من صوف وحرير وخيوط قطن تم العثور عليها في إيران، ونسيج مزخرف من العراق واليمن ومصر، وعندما تصل إلى قطعة نسيج حريرية مزخرفة داخل أشرطة من القرن العاشر للهجرة وجدت في مصر حاول أن تحبس دموعك لأنها جزء من غطاء قبر الرسول (ص).
تاريخ يضيع
أما شواهد القبور فلها العديد من الأشكال المختلفة سواء “بازلت” أسود أو هي رخام أبيض من مختلف العصور، وهو مفرد أو مزدوج وعليها كتابات مختلفة سواء بالخط الكوفي أو بالتركية، وهي من الجمال بحيث تضاهي أروع ما نحت الفنانون العالميون، وتتباين هذه الشواهد في حجمها وأنواعها، فالعديد من هذه الشواهد كاملة فأحدها تركيبة رخامية باسم “علي كتخدا صلفي”، قائمقام فيلق، وهو من رخام نفذه محمد الجلبي البولاقي، وأيضا تركيبة من الخشب لقبر الإمام الحسين يعود إلى القرن السادس الميلادي في العصر الفاطمي وهو عبارة عن خشب عليه زخارف محفورة ومعشق، وهذا القبر التذكاري من مسجد الحسين.
|
حدث الانفجار، فتناثرت أشلاء التاريخ منصهرة ومتكسرة تحت الأنقاض، في صورة عبثية محزنة إلى حد البكاء
وخلال تجوالك سترى خشبا محفورا يحمل رسوما باللاكية مطعمة بالعاج، وهناك أبواب مشابهة لهذا الباب مصدرها البيوت المبنية في حدائق أصفهان حيث نقشت عليها رسوم لأشخاص في مناظر سينت (كوميديا إسبانية) ونفذت بأسلوب يرجع مباشرة إلى فن الكتابة في عهد الشاه عباس الثاني وينفرد هذا الباب بوجود العاج المرصّع بزخارف هندسية.
ثروة محترقة
ولا ننسى السيوف والتي تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني فستجد سيفين أحدهما باسم “قنصوة الغوري” والثاني لـ”طومان باي” ولهما مقبضان ونصلان، وسيستوقفك أيضا مصباحان باسم السلطان شعبان الثاني من القرن الثامن الهجري، وزجاج نفخ مطلي بالمينا ومذهب من قبر السلطان شعبان من مدرسة السلطان برقوق، ومنضدتان خشبيتان من خشب مطعم بالسن والعاج والعظم والأبنوس، وكرسي عشاء باسم السلطان الناصر محمد بن قلاوون وهو عبارة عن سبيكة نحاس بزخارف محفورة ومكفتة بالذهب والفضة، وهو مستدير الشكل ليس له مسند، ذو نقوش رائعة مكتوب عليه اسمه، ومجموعة أواني مائدة معدنية من نحاس وزخارف محفورة ومكفتة بالفضة، وإبريق له صنبور، وطشت باسم السلطان الصالح نجم الدين أيوب مكفتة بالفضة، وعلى الرغم من انشغال الدولة الأيوبية بالحروب وقصر فترة حكمها إلا أن سلاطينها اهتموا بالعمارة الدفاعية والمدنية ورعاية الفنون بمختلف أنواعها، واهتموا أيضا برعاية الفنانين وأصحاب الحرف وازدهرت فنون الخزف والزجاج والحفر على الخشب.
|
ويصادفك في المتحف العديد من القوالب الجصية التي تعود إلى مدينة سامراء بالعراق حيث تميزت واجهات قصورها بتنوع زخارفها الجصية والتي كانت تنتمي إلى ثلاثة طرز زخرفية امتاز الطراز الأول بالحفر العميق لزخرفة الجدران والجمع بين الزخارف النباتية والهندسية وقربها من أطوالها الطبيعية، أما الثاني فتميز بكبر حجم الوحدات الزخرفية وبعدها عن الطبيعة مع تكرار تلك الزخارف.
وتتميز الفنون الإسلامية في العصر العباسي سواء في العراق أو في مصر بأنها تمثل مرحلة انتقال متقدمة من الطراز الساساني والقبطي إلى طراز فني يمكن أن نطلق عليه الفن الإسلامي وذلك بإضافة عناصر خزفية جديدة تتمثل في الكتابات وزخارف الأرابيسك، والرسوم الهندسية المبتكرة سواء المطرزة أو المنسوجة أو المكتوبة والتي صنعت من الكتان في مصر ومن القطن في العراق وايران، وفي العصر العباسي تفوق الفنانون في صناعة الأخشاب المزخرفة بالرسوم النباتية والحيوانية المحفورة على نمط زخارف الجص في مدينة سامراء، وعندما انتقل أحمد بن طولون إلى مصر أنشأ عاصمته القطائع التي تشهد آثارها الباقية على عظمة المعماري المسلم، وعلى تأثر الفنون في مصر وفروعها المختلفة بأسلوب مدينة سامراء العراقية سواء في الأخشاب أو الجص أو الخزف.