تدوير الوجوه لا يكفي لتطوير الإعلام المصري

لجأت قنوات فضائية مصرية إلى سياسة تدوير الوجوه الإعلامية البارزة، في محاولة لترميم شعبيتها دون أن تصحب ذلك رغبة في إجراء تغيير حقيقي في المحتوى والتطرق إلى قضايا حيوية في هذه المرحلة الحرجة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما يجعل فكرة نقل مذيع أو مذيعة من قناة إلى أخرى بلا مردود ملموس، إذا استمرت السياسة التحريرية القديمة على حالها ودون تطوير.
القاهرة - قررت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تملك وتدير عددا كبيرا من القنوات المصرية ضم الإعلامي محمد الباز إلى قناة الحياة لتقديم برنامج “التوك شو” الرئيسي، وسبق له تقديم برنامجي “90 دقيقة” و”آخر النهار”، و”الشاهد”، ونقل الإعلامي محمد مصطفى شردي من “الحياة” إلى محطة “أون تي في” ببرنامج اسمه “كل يوم”، خلفا للمحامي – الإعلامي خالد أبوبكر.
وأعلنت فضائية “صدى البلد”، المملوكة لرجل الأعمال محمد أبوالعينين، أن الإعلامية عزة مصطفى مقدمة برنامج “صالة التحرير” أنهت مشوارها مع القناة دون أن تُحدد وجهتها المقبلة، وخرجت لتعلن رسميا عن انتقالها لتقديم برنامج على قناة “الحياة”.
تعتمد بعض الفضائيات في مصر كل فترة على سياسة تدوير الوجوه، ما يوحي بتجديد الدماء دون أن تكون هناك خطة محددة للاعتماد على الشباب وصناعة جيل من الإعلاميين يكونون في صدارة المشهد مستقبلا، ما يشي بعدم تحقيق سياسة التدوير نجاحا في مسألة استقطاب الجمهور، ما يؤثر على العلاقة بين الإعلام والحكومة.
ويشير التمسك بهذه السياسة إلى وجود تعقيدات في إدارة المشهد الإعلامي تحتاج إلى تفكيك مهني، والتخلي عن التمسك باقتصار التطوير على الوجوه، وقد تتم إزاحة إعلاميين قدامى بلا مقدمات، وبعد فترة يتم استدعاؤهم للخدمة مرة أخرى، وتوزيع آخرين على القنوات، أملا في تعزيز دور الإعلام وزيادة مصداقيته.
يغيب عن القائمين على المشهد الإعلامي أن تغيير الوجوه وتبديل الشخصيات لا يكفي وحده لإحداث نقلة نوعية في الأداء وتطوير المحتوى، ويصعب التوقع بإمكانية استعادة الإعلام جماهيريته الغفيرة، لأسباب ترتبط بمضمون الخطاب الموجه إلى الرأي العام، وحدود الحريات المسموح بها لمقدمي البرامج، ومدى القبول بالتطرق لملفات مختلفة بلا سقف سياسي، والمبالغة في الاصطفاف خلف الحكومة.
تتمسك دوائر إعلامية بأن الصوت الواحد ضرورة لاستقرار الأوضاع السياسية والأمنية، ومن الخطر الاعتماد على وجوه جديدة والاستغناء عن القدامى المخضرمين، مع أن تجارب الاستعانة بإعلاميين لهم توجهات متزنة لم تؤلب الشارع على الحكومة المصرية، حيث يجد المواطن من يتحدث بلسانه وينقل معاناته.
ويرى خبراء أن اقتصار التطوير على تغيير أو ما يوصف بـ”تدوير” الوجوه يبُقي الخطاب الإعلامي على حاله بلا تغيير، وهذا خطأ قد يجلب نتائج سلبية يصعب علاجها لاحقا، والأمر يتطلب البدء في إعداد جيل من الإعلاميين دون استسلام للخوف من نتائج إزاحة الحرس القديم الذي يكتفي عدد كبير منه بتقديم محاضرات للجمهور.
أصبح المشاهد المصري أكثر وعيا لما يحدث داخل المنظومة الإعلامية، ويُدرك أن نقل مذيع من قناة إلى أخرى بنفس السياسة والأسلوب والقناعات المطلقة والدفاع عن الحكومة لن يقود إلى تغييرات إيجابية، وربما يُكرس الحالة التي عليها معظم القنوات، لأن هناك ممانعات لاستحداث خارطة برامجية تلبي تطلعات الشارع لإعلامه.
يربط الجمهور التطوير الحقيقي بإلغاء بعض الخطوط الحمراء أمام مقدمي البرامج وإتاحة الفرصة لتعدد الاختلاف في وجهات النظر لاستعادة المصداقية، فتغيير المذيع ونقله إلى محطة يطل من خلالها على الناس لن يحققا أهدافه، في ظل تشتت المضمون وعدم وضوح الرؤية لكل برنامج، وبدا بعضها نسخا شبه مكررة.
تظل أكبر أزمة يعاني منها الإعلام في مصر أن الهيئات الإعلامية الحكومية لم تحدد من أين يبدأ التطوير، هل بوضع سياسة ملزمة لجميع الوجوه، سواء بقيت أو تنقلت بين قناة وأخرى أم بإجراءات عملية تعيد المصداقية أم إزاحة الوجوه القديمة والاعتماد على أخرى جديدة يمكن أن يقبلها الناس، أم بفتح الباب على مصراعيه أمام الحريات؟
تتسم غالبية الوجوه الإعلامية القديمة في مصر التي يُعاد تدويرها على فترات بقدرتها على التأقلم مع طبيعة المرحلة والبيئة السياسية، وهو أمر تحتاجه الحكومة مع تراكم التحديات والتهديدات، والخوف من استغلال بعض الأصوات للحريات المطلقة بشكل غير منضبط، وقد تجد نفسها في مأزق سياسي.
ومهما ارتفع سقف الحريات مع استمرار الوجوه القديمة، لن يقتنع الشارع لها، وقد تُفهم الخطوة على أنها حرية موجهة أو لأغراض مؤقتة، أما دخول مذيعين جدد لا يعرفهم الناس ولا يملكون رصيدا كبيرا في دعم الحكومة طوال الوقت، ربما يعيد التوازن للشاشة ويقضي على احتكار بعض الوجوه للرسائل الموجهة للجمهور.
غالبية الوجوه الإعلامية القديمة في مصر تتسم بقدرتها على التأقلم مع طبيعة المرحلة والبيئة السياسية، وهو أمر تحتاجه الحكومة مع تراكم التحديات والتهديدات
يشير بعض الخبراء إلى أن استعادة مصداقية الإعلام المصري تبدأ بوجود إرادة قوية للانفتاح على الأصوات المختلفة، بالتوازي مع تقديم جيل جديد من الإعلاميين، والتخلي تدريجيا عن القدامى ممن فقدوا مصداقيتهم، والاستعانة بمتخصصين في إدارة المشهد الإعلامي ووضع خطة قابلة للتطبيق، والحد من أهل الثقة لحساب الكفاءات.
قال الإعلامي ورئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي سابقا جلال نصار إن سياسة التدوير يصعب أن تصنع الفارق وتقنع الناس بالتغيير الإيجابي، ومن المهم تقديم وجوه جديدة، ومصر مليئة بالكفاءات، وتوظيفها بشكل صحيح بالاعتماد على تسليم الملف برمته لخبراء يدركون قواعد المهنة وإدارة العلاقة مع الناس بشكل سليم.
وأضاف لـ”العرب” أن مصر تستحق إعلاما قويا، لا يخاطب نفسه طوال الوقت، ولديها من يستطيعون صناعة محتوى جيد، ويُدركون خطورة التحديات الراهنة، ويفهمون القواعد المهنية ويطبقونها على أنفسهم أولا، وليس كل صوت معارض خائن أو غير وطني، وليست كل الانتقادات مهمتها تهييج الرأي العام، فهناك كفاءات إعلامية يمكنها تصويب المسار، والعبرة في إفساح الطريق أمامها.
وعبر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن عدم رضائه عن أداء الإعلام في أكثر من مناسبة، وأعلن بوضوح عن تحفظاته على الخطاب الموجه إلى الجمهور الذي قد يبدو محتواه سطحيا ومحليا ولا يتمتع بمهنية أو تأثير، وطالب مرارا بالتوازن والانفتاح على كل الأصوات، لكن هناك دوائر إعلامية لا يروق لها ذلك.
وترتب عن تغافل هذه المحددات أن سلوك بعض مقدمي البرامج ليست له علاقة بأدبيات الإعلام، وتسبب في عزوف قطاعات واسعة من الجمهور عن متابعة القنوات الرسمية في ذروة احتياج الدولة إلى وسيط إعلامي قوي ومؤثر وصادق، وهي إشكالية تفرض على الحكومة أن تقتنع بأن امتلاك إعلام مؤثر ليس معضلة، فالمهم أن تتوافر الإرادة.