تدابير إيرانية: قاآني كرجل مساع "حميدة" في العراق

حتى لو تمكن الصدر من قيادة حكومة "أغلبية" فإن المنغصات التي تفرضها عليه الجماعات المسلحة ستظل قائمة بل وتزداد خطورة من دون أن تكون "القوات الحكومية" قادرة على كبحها.
الأربعاء 2022/01/19
تقليب الأحجار لتقليب الأزمات ظل يحصل باستمرار

الهجمات التي تشنها الميليشيات التابعة لإيران ضد منازل نواب ومكاتب أحزاب تتحالف مع “الكتلة الصدرية”، تجري لأجل أمرين.

الأول، أن توفر لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني ذريعة للقدوم إلى النجف من أجل رأب الصدع داخل “البيت الشيعي” ومحاولة إيجاد سبيل لاشتراك الطرفين المتنازعين: “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري” في حكومة “توافقية”. إذ لولا وجود قلاقل وهجمات، من صنيع إيران، فماذا سيكون المبرر لكي تلعب إيران دورا في “التهدئة” وإصلاح ذات البين؟

والثاني، هو أن الميليشيات الإيرانية تريد أن تبلغ مقتدى الصدر رسالة مفادها أنها قادرة على زعزعة الاستقرار إذا ما تم استبعادها من السلطة. وهي تُبلغ هذه الرسالة لأنها تعرف مسبقا أن الصدر ضعيف، وتحالفاته هشة، وقوته مُخترقة.

تدبير الهجمات، وبعضها كان ذا طابع استعراضي، يكشف، على أيّ حال، جانبا من جوانب الخبث الذي يمارسه هذا السرطان للتحكم بالعراق وأحزابه وجماعاته. فإيران التي تفتق الفتق، تسارع للقيام بالمبادرة لرتقه، ظنا منها أنها تستغبي العراقيين “بنياتها الحسنة”.

قاآني جاء إلى النجف ليجري مباحثات مع الصدر، ولإقناعه بأنه “ساع من سعاة الخير” بين فصائل البيت الشيعي، رغم أنه هو الذي أصدر الأوامر بشن تلك الهجمات. وهو جعلها هجمات استعراضية، لا تقتل أحدا، لكي لا يقطع الطريق على نفسه وعلى جماعاته بأن تُبقي أبواب التفاوض مفتوحة مع الأطراف المستهدفة. ولكن لكي يُبلغها طبعا، بأن يد إيران يمكن أن تطالها في أي وقت.

وهو قام بزيارة قبر والد الصدر، محمد صادق الصدر، ليس ليقرأ الفاتحة على روحه، وإنما على روح “حكومة الأغلبية” الـ”لاشرقية” والـ”لاغربية” التي يدعو لها الصدر الابن.

جولة من جولات النفاق والتمسح أمر مألوف في محاولات الاستعطاف. إلا أنه نفاق وتهديد في آن. بمعنى أن الفاتحة يمكن أن تُقرأ على روح الابن أيضا إذا تمسّك بالعناد.

ولا حاجة لمعرفة النتائج. الهجمات المسلحة هي التي ستقدم الجواب. إذ أن بوسع إيران أن تحرك ما هو أكثر من جماعاتها نفسها، في مواجهة حكومة الصدر المزمعة، إذا لم تأت على هوى “التوافق” مع إيران.

محنة العراق الحقيقية هي أن قواه الوطنية الحقيقية تتخبط. وليس فيها من يستطيع أن ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه. والكل يعتقد أنه أبوالفهم، الذي لم يُخلق على سطح الأرض سواه

تقليب الأحجار، لتقليب الأزمات وإثارة الفتن، ظل يحصل باستمرار. ومن بين ذلك تدبير التدابير لكي يظهر تنظيم داعش نفسه. فيظهر في مقابله “حرس ثوري” يدعى “الحشد الشعبي”، تابع للحرس الثوري الإيراني، فيخوض حربا ضد ذلك التنظيم، وضد المدن والبلدات والمحافظات السنية لتدميرها وتهجير أهاليها وتعطيل كل مظاهر الحياة والاستقرار فيها، لكي لا تظهر كمنافس للنفوذ الشيعي الموالي لإيران. ومن ثم ليظهر، من تحت الأنقاض، سقط متاع سياسي سني خاضع لنفوذ إيران.

والأسئلة ما تزال مفتوحة على أيّ حال، حول السبب الذي جعل ألوية الجيش العراقي تفر من الموصل تاركة أسلحتها لداعش. وقبل ذلك حول السبب الذي جعل السلطات تترك التنظيم ينمو ويعزز قوته في المحافظة، قبل أن يقتحم عليها مراكزها وبنوكها، التي تمت تعبئة خزائنها بعشرات الملايين من الدولارات، لكي يستولي عليها التنظيم وتتحول الموصل إلى أرض معركة تمتد إلى ثلاث محافظات سنية أخرى.

الصدر، ولو بالمعنى الشخصي، ليس على تلك المتانة التي تجعله قادرا على مواجهة الضغوط.

مجرد قبوله الاجتماع بهادي العامري رئيس “تحالف الفتح”، التابع لقاآني، وعرض المشاركة في حكومة “الأغلبية” عليه، من دون باقي أطراف “الإطار”، بل من دون “تحالف دولة القانون” الذي يتزعمه نوري المالكي، التابع الآخر لقاآني، يعني أن القصة بالنسبة إلى الصدر ليست قصة خيارات وطنية فعلا. وإنما قصة عداء شخصي مع المالكي. وككل عداء شخصي، فإن نوعا من “تبويس اللحى” والمصالحة يظل أمرا ممكنا باستمرار.

الصدر لا يملك، في الوقت نفسه، تحالفا ذا طبيعة متماسكة. جماعتا “تقدم” برئاسة محمد الحلبوسي، و”عزم” برئاسة خميس الخنجر، ليستا في النهاية سوى دمى سبق لسلف قاآني أن كان يحركها بطرف إصبعه الأصغر. وبالتالي، فإن تهديدهما أو ابتزازهما، ولو ببعض قنابل يدوية ترتطم بالجدار، يظل إشارة كافية إلى أنه يمكن جرّهما لسحب البساط من تحت أقدام الصدر.

أما الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، فهو يريد تعيين رئيس للعراق من قائمة المتهمين بأعمال الفساد، ليس لكي يكمل مشروعا إقطاعيا لم يقدم لكردستان إلا الفشل والفساد فحسب، بل لكي يثبت أولوية الإفساد على كل ما عداه. وهو، على أيّ حال، ظل حليفا لسلطة نوري المالكي، بكل ما كانت تعنيه، ليس لأنه كان يجهل طبيعتها الإجرامية وعمالتها المطلقة لإيران، بل لأنه كان يريدها أن تكون كذلك.

مسعود بارزاني كان ينطلق من فكرة تقول: إن تدمير العراق وإغراقه بالجريمة والفساد، يعزز فرص انفصال كردستان.

الرجل كان يريد إقطاعية خاصة بعائلته، لا يشاركه فيها أحد. وسواء انتحرت بغداد أو أحرقت، أو دُمّرت بأعمال ميليشيات إيران، فإن ذلك ما كان ليهز شعره في رأسه. بل إنه كان يأمل، في لحظة من اللحظات، أن يقايض إيران بالقول “أعطيناكم بغداد، فأعطونا أربيل”. قبل أن يكتشف أن أوهامه أوهام، وأنه ساهم في تدمير العراق من دون أن يكسب الانفصال، بل انقلب السحر على الساحر بأسوأ مما كان.

التحالف مع عقلية كهذه لا يصنع أوطانا حرة ولا مستقرة. كما لا يصنع حكومات “بيها حظ”.

وحتى لو تمكن الصدر من قيادة حكومة “أغلبية”، فإن المنغصات التي تفرضها عليه الجماعات المسلحة التابعة لقاآني، ستظل قائمة بل وتزداد خطورة، من دون أن تكون “القوات الحكومية” قادرة على كبحها، لأن هذه القوات، هي نفسها مخترقة بولاءات إيرانية.

المحنة ليست محنة الصدر، على أيّ حال. وإنما هي محنة المشروع الوطني العراقي، الذي كلما برز برأسه، جاء مَنْ يقطعه.

هذا المشروع ضعيف. وهو بضعفه لا يوفر للمرتعدة فرائصهم الفرصة للثبات على موقف.

الصدر متقلب، يقول ما لا يفعل، لأنه واقع تحت ضغط نزعات وأهواء متضاربة. وثقافته الهزيلة لا تسمح له بأكثر من الظهور كشخص مضطرب، تتحرك نوازعه بانفعالات شخصية، لا بمشروع ذي مقومات.

رجل كهذا يسهل التحكم فيه. كما يسهل جرّه من موقف إلى موقف مضاد.

محنة العراق الحقيقية هي أن قواه الوطنية الحقيقية تتخبط. وليس فيها من يستطيع أن ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه. والكل يعتقد أنه أبوالفهم، الذي لم يُخلق على سطح الأرض سواه.

9