تخييل التاريخ

منذ سنوات بعيدة وما زال الحوار حول مفهوم الرواية التاريخية يتجدد بين النقاد وبعض كتّاب الرواية. إشكالية المصطلح لا تنبع من دلالاته ومجال اشتغاله، بقدر ما ترتبط بمفاهيم قارة في أذهاب بعض الكتاب، بعد أن سادت موجة الروايات التاريخية، التي ظهرت على يد جرجي زيدان ونجيب محفوظ في مرحلته الأولى. في حين أن التطور الذي شهدته هذه الرواية وتعدد تجاربها أطاح بمثل هذه المفاهيم القديمة.
يمثّل التاريخ فضاء حكائيا يتداخل فيه المتخيّل مع الواقع، ويخضع بناء العالم السردي فيه إلى أسس ومفاهيم كأيّ عمل روائي آخر. لم تعد وظيفة الرواية التاريخية استحضار الشخصيات التاريخية والأدوار الإيجابية التي قامت بها، لتعزيز علاقتنا بهذا التاريخ، لأن هناك رؤى جديدة أصبحت تستخدم الحكاية التاريخية للتعبير عن تجربة الواقع، أو عن استمرارية هذا التاريخ من خلال الأدوار التي ما زالت تستخدمها سلطة الاستبداد في المجتمع.
كتب الروائي اللبناني أمين معلوف الرواية التاريخية، ومن خلالها حقق شهرته عربيا وعالميا، ولم يعبه تسمية هذه الروايات بالتاريخية. هناك في التاريخ ما يستحق أن يروى على غرار الكتابة السردية عن الواقع الراهن. في الماضي كما في الحاضر هناك سيرورة إنسانية تنطوي على الكثير من التجارب والمواقف الإنسانية الدالة. المشكلة ليست في التاريخ بقدر ما هي في أساليب السرد وتقنياته المتبعة في رواية هذا التاريخ.
لقد كتب العديد من كتّاب المغرب العربي روايات اتخذت من التاريخ فضاء حكائيا لأعمالهم. هم لم ينفوا هذه العلاقة، كما لم يجدوا فيها انتقاصا من قيمة أعمالهم. لذلك فالروائي الرافض لهذا المصطلح، يصعب عليه التمييز بين عمل الروائي والمؤرخ، أو بينه وبين الروائي التقليدي. الرواية التاريخية هي إعادة تخييل لأحداث ووقائع وشخصيات عاشت في الماضي، وهذه الرواية تسائل وتحفر وتستقرئ الماضي، ولأجل هذه الغاية يمكن أن تستخدم طرائق السرد المختلفة، كما هو الحال في أي عمل روائي آخر.
كل هذا يجعل الرواية التاريخية تتمرّد كثيرا أو قليلا على سلطة المرجعي فيها، وقد تطيح به كليا لتعيد بناءه كاملا وفق رؤية جديدة، تحول التاريخ إلى مادة للتخييل والقراءة والترميز، وليس العكس كما يتوهم بعض هؤلاء الكتاب. وبالتالي فهي عمل إبداعي لا يقل أهمية عن الرواية الواقعية في إحالتها التخييلية على الواقع.
ما نحتاجه للخروج من هذه الإشكالية هو إعادة تصويب هذا المصطلح وتعيين حدوده ودلالاته في ضوء التطور الذي شهدته هذه الرواية، والإضافات التي قدّمتها تجارب كثيرة، منحت هذه الأعمال قيمتها السردية والجمالية.