تخوين الديمقراطية عقيدة الإسلاميين عند الهزيمة

تونس- مثلت الإطاحة بحكومة الحبيب الجملي في البرلمان التونسي ضربة قاصمة لحركة النهضة وخصوصا لرئيسها راشد الغنوشي الذي يحمله شق واسع من النهضويين تبعات سياساته التي أودت بالحركة إلى العزلة ونفور الأحزاب منها.
وبرهنت مداخلات النواب في الجلسة العامة التي خصصت لمنح الثقة لحكومة الجملي مدى توجس الأحزاب من تلوّن وضبابية النهضة التي تفعل الشيء ونقيضه وتتقن فن المناورة والحكم من وراء الستار باستغلال الأحزاب الصغيرة التي ترميها في فوهة البركان لتظل تتحكم من ورائها في دواليب الدولة.
منذ البداية، كان من المتوقع ألّا تنال حكومة الجملي الثقة، نظرا لعدم إحاطة نفسها بحزام سياسي طيلة شهرين من المفاوضات بما يضمن لها في ما بعد نيل الأصوات.
صرّح الغنوشي أن عدم مرور الحكومة وإسقاطها في البرلمان عرس من أعراس الديمقراطية. ولا يشك أحد في قدرته على قول الشيء ونقيضه لأن موقعه لا يسمح له بأن يقول ما يفكر به في تلك اللحظة، هكذا هو الغنوشي السياسي “المكيافيلي” الذي يدرك أن ما يقوله ليس الحقيقة ولكنه يقوله لغاية ما.
عادة ما يقول قياديو النهضة ما يجول في خاطر زعيم الحركة وخصوصا الشخص الأقرب إليه وهو صهره رفيق عبدالسلام الذي صرح أن مخططا أجنبيا في علاقة بما يجري في ليبيا وراء إسقاط الحكومة، وهو ما قاله أيضا عبدالكريم الهاروني في اجتماع مجلس الشورى قبل انطلاق التصويت على الحكومة.
أثارت هذه التصريحات حفيظة العديد من المتابعين للشأن العام نظرا لما تكتسيه من إساءة لصورة البرلمان التونسي ولسيادة البلاد في وقت تحتد فيه التجاذبات الإقليمية في ليبيا على حدود البلاد.
يبدو أن النهضة ترفض الآن الاعتراف بالهزيمة وترفض تحمل مسؤولية الحكم على أساس التوافق والعمل الثنائي وهي التي لا تلبث في كل مصاب أن تبحث عن طرف آخر تحمله مسؤولية الفشل.
لعل النهضة التي ساهمت بشكل كبير في صياغة دستور البلاد بعد ثورة يناير في المجلس التأسيسي، لم تع بعد أن تفتيتها للسلط سيكون بمثابة النار التي تكتوي بها هي الأخرى حينما يتكتل النواب من مختلف الألوان السياسية ضدّها بعدما أصبح حصولها على أغلبية مطلقة أمرا مستحيلا.
يمكن أن يعكس كل ما يحدث داخل أسوار النهضة أنها لا تؤمن بالديمقراطية إلاّ حينما تمنحها الأسبقية، لكن حين ترجح كفة غيرها، تصبح الديمقراطية مدعاة للتخوين كما يتعرض النظام البرلماني الذي استماتت في الدفاع عليه هو من قتل حكومتها قبل أن تولد.
واللافت للانتباه بعد سقوط حكومة الجملي، هو تصويت أمينها العام السابق زياد العذاري ضد توجهات الحركة، علاوة على قوله إنه لن يمنح ثقته للحكومة، ليكون بذلك أول من يجاهر برفض سياسات الغنوشي وأول المتمردين داخل الحركة التي دأبت على إخفاء كل خلافاتها.
وتقلصت شعبية النهضة بدرجة كبيرة مما انعكس على عدد مقاعدها بالبرلمان مقارنة بعام 2011، حيث شهد خزانها الانتخابي نضوبا ناتجا عن عدم وضوحها وتغييرها لمواقفها وفق الحاجة وحسب الطلب.
رغم الخسارة، يبدو أيضا أن الحركة لم تدرك بعد ما جنته عليها سياسة الغنوشي من عزلة والتي قد تؤول بها في قادم الأيام إلى الخروج من الحكم بعدما أصبحت أشبه بأنثى العنكبوت السوداء التي تقضي على قرينها بعد التكاثر.
ومن المتوقع أن يكون سقوط الإسلاميين ورقة ضغط جديدة في يد معارضي الغنوشي داخل حزبه خصوصا مع اقتراب المؤتمر الحادي عشر للحركة، حيث بات النهضويون يحمّلون رئيس الحزب وزر سياسته التي قد تكلف الحركة فقدان الحكم.
وتشير التوقعات إلى أن مجموعة من النواب تعتزم تكوين كتلة برلمانية كبيرة للوقوف أمام تغوّل حركة النهضة ومنعها من تنفيذ سياساتها التي أضرت باقتصاد البلاد على مدى تسع سنوات من حكمها.
وغذّى لقاء رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي برئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد بعد أشهر من القطيعة، التوقعات بتقارب وجهات النظر بين الطرفين لتكوين كتلة يمكن أن تتوسع إلى أطياف أخرى للوقوف أمام تغول النهضة واحتكارها للحكم.
ولعلّ هذا التقارب المرحلي والبراغماتي يعكس رغبة الحزبين في كسب ودّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد المسؤول عن تكليف الشخصية الأقدر بتشكيل حكومة.
وحسب تصريحات أغلب النواب باستثناء عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، فإن رفع الفيتو على حكومة الجملي لم يكن لأسباب أيديولوجية، بل لضعف هذه الحكومة وعدم أهليتها لتحمل تحديات المرحلة ولتضمنها أسماء شخصيات تدين بالولاء للنهضة رغم تبرّئها من ذلك عبر مصطلح حكومة مستقلة.
وتصاعدت خلال الفترة الأخيرة التوقعات بسحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان، حيث دعا الحزب الدستوري الحر إلى اجتماع النواب على سحب الثقة من رئيس البرلمان مثلما تم اجتماعهم على إسقاط حكومته.
وأجج سفر الغنوشي إلى تركيا لملاقاة الرئيس رجب طيب أردوغان بعد إسقاط الحكومة، جدلا واسعا داخل الساحة السياسية بالبلاد نظرا لاحتراز عدد من الأحزاب على تركيا التي تشكل أحد المحاور الإقليمية التي تتصارع في ليبيا.
وطالب النائب مبروك كورشيد بضرورة إفصاح الغنوشي عن فحوى لقائه مع الرئيس التركي، واعتبر اللقاء انتهاكا صارخا لنواميس الدبلوماسية ومسّا من سيادة البلاد ودعا النائب اليساري منجي الرحوي إلى مساءلة الغنوشي بالبرلمان.
وأكد راشد الغنوشي في صفحته الرسمية أن اللقاء كان مناسبة لتهنئة الرئيس التركي بصناعة سيارة محلية جديدة ولتباحث التطورات الإقليمية والتحديات التي تواجهها المنطقة وللتشجيع على جلب مستثمرين أتراك للبلاد.
لكن صفة الغنوشي الحزبية تتنافى وتتعارض تماما مع صفته في الدولة كرئيس للبرلمان مما جعل هذه الخطوة مدعاة للشكوك والريبة بما أن مركزه في الدولة يفترض احترامه لسيادتها ورجوعه للبرلمان قبل توجهه إلى أي جهة كانت.