تحفيز الطاقة الشرائية أهم من المقاطعة العشوائية

أثبتت التجارب أن غالبية حملات المقاطعة لا يكتب لها الاستمرار والنجاح عربيا، حيث تعود الأسعار للصعود مرة أخرى قبل انتهاء فترة المقاطعة.
الثلاثاء 2018/11/20
الخضوع للأمر الواقع

سلاح المقاطعة الشعبية للمواد الاستهلاكية التي لا تحترم القدرات الشرائية للفئات الشعبية، ليس فعالا في كل الحالات والأوقات كما يتوهم قسم كبير من المتحمسين له والدعاة إلى استخدامه في وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لأسباب عديدة، منها الجانب الإجرائي على أرض الواقع، ومنها الجانب الموضوعي المتعلق بمعطيات اقتصادية وسياسات حكومية، هذا بالإضافة إلى جوانب نفسية وثقافية متشابكة، تتعلق بطرق عيش المجتمعات وعاداتها الاستهلاكية والاحتفالية. وبالإضافة إلى ذلك كله، أليس الأجدر أن تعالج الحكومات قضايا التضخم وتبحث في تحسين الطاقة الشرائية للمواطن بدلا من أن يُعول على حملات عشوائية لا تراعي في أغلبها بعض الأولويات والاحتياجات الأساسية، فما ذنب الأطفال مثلا، في حملة مقاطعة الحليب؟

على الصعيد الميداني، أثبتت التجارب أن غالبية حملات مقاطعة المنتجات الاستهلاكية، والنشاطات الخدمية ذات الأسعار المرتفعة، وغير المنسجمة مع القدرات الشرائية للمواطنين، لا يُكتب لها الاستمرار والنجاح عربيا، حيث تعود الأسعار إلى الصعود مرة أخرى قبل انتهاء فترة المقاطعة، وذلك لأن المجتمعات العربية من “ذوات النفس القصير”، بالإضافة إلى ضعف الوعي بمدى فاعلية المقاطعة وغياب هذه الثقافة لدى الشعوب العربية أي ثقافة الـ”بويكوط” وهي نسبة لاسم الكابتن في القوات العسكرية البريطانية شارل بويكوط ، الذي كان منفذا للسياسة البريطانية في ايرلندا أواخر القرن التاسع عشر.

 قد تحقق مثل هذه الحملات نجاحا ملحوظا في الأيام الأولى، ولكن الناس لا ينتظرون بطبعهم اللجوج المتسرع انتهاء فترة المقاطعة فيتزاحمون على الشراء فور نزول الأسعار التي تعود إلى الارتفاع مرة أخرى، وربما بشكل أشدّ مما كانت عليه.

هناك عادات استهلاكية يصعب التخلي عنها بالنسبة للمواطن العامي الذي يتكبد الديون ويضيّق على نفسه الخناق في سبيل الالتزام بهذه العادات التي تتعلق أحيانا بنوع من “البريستيج الاجتماعي”، فلا يُعقل أن يخلو صالون عربي من أفخر أنواع القهوة أو الشوكولاتة والحلويات وغيرها من متممات الضيافة في مناسبات اجتماعية ودينية عديدة.. وما أكثر هذه المناسبات وأغزرها في البلاد العربية.

لا يمكن للتونسي مثلا، أن يتخيل احتفالية المولد النبوي دون “عصيدة الزقوقو” (الصنوبر الحلبي)، هذا المنتج البري باهظ الثمن، ويعادل ضعف الراتب اليومي لمتوسطي الدخل في ظروف معيشية صعبة تعيشها البلاد، ومع ذلك يصر جميع الناس على شرائه في تونس. وأمام مبادرة ناجحة لتخفيض أسعار الليمون أطلقتها الجمعية الوطنية الأردنية حيث وزعت 1500 شتلة ليمون لتتم زراعة شجرة ليمون أمام عدد من البيوت، واستغلال المحصول المطروح خلال عامين وتوزيعه على السكان مما أدى إلى خفض الأسعار بشدة، أمام هذه المبادرة، وكتدليل على استحالة استيراد أو تعميم نماذج مشابهة لمقاطعة المنتجات غالية الثمن، نسأل أنفسنا: هل يضطر كل تونسي إلى زراعة شجرة صنوبر حلبي أمام منزله، ينتظر نموها سنوات طويلة لينعم بطبق من “عصيدة الزقوقو” في المولد النبوي؟

ولا يمكن تجاهل المسألة الدينية والمذهبية في عدم التزام الناس بحملات المقاطعة مهما جُند لها من متحمسين على مواقع التواصل، فمواطنو شمال أفريقيا مثلا، هم في غالبيتهم الساحقة من أتباع المذهب المالكي الذي يعتبر أضحية العيد فرضا لا جدال فيه على كل أسرة مسلمة. وفي هذه الحالة يُعتبر -في نظر المتعصبين- المشارك والمتعاطف والداعي إلى حملات مقاطعة شراء الخرفان في العيد، ضعيف الإيمان والعقيدة، وخصوصا في الجزائر وتونس وليبيا.

حملات المقاطعة قد تنجح في دول عربية دون غيرها، ففي بلد مثل مصر لا يكتب لها النجاح عادة، وغالبا ما تنتهي بالفشل وتستمر الأسعار في مسارها التصاعدي دون عوائق، وهو ما يرجعه الخبراء إلى عدم وعي المستهلكين المصريين بأهمية وتأثير حملات المقاطعة من جهة، “وقصر نفس هذه الحملات” من جهة أخرى كما تقول حنان عبدالحليم، مؤسسة إحدى حملات المقاطعة في مصر على مواقع التواصل الاجتماعي،  مضيفة أن “الناس أنفسهم قصيرة وينقصنا الوعي”.

السؤال الآخر والأجدر بأن يُطرح أمام الذين يرون في المقاطعة حلا وحيدا وسحريا لوقف ارتفاع أسعار البضائع والخدمات، هو ما مصير صغار الباعة والمزارعين والعاملين في القطاعات المنتجة للبضائع والسلع التي ينوون مقاطعتها؟ من سيحمي صغار الأجراء والوسطاء، ويؤمّن معيشة أسرهم، وما هم إلا عاملون بسطاء في شركات كبرى قد يغلق أصحابها أبواب مصانعهم ومستودعاتهم، ويقصدون وجهات أخرى في عصر العولمة واقتصاد السوق، ذلك أن رأس المال “جبان” بطبعه. ساعتها تصبح المقاطعة بمثابة صب الزيت على النار، وتستفحل الأزمة وتتحول من احتجاج على الأسعار إلى رفد البلاد بالمزيد من الفقراء والعاطلين عن العمل.

12