تحرير سوريا من قبضة فيسبوك مهمة صعبة مع سيطرته على بيئة المعلومات

هيمنت منصة فيسبوك على الأخبار في سوريا، وأصبحت الوسيلة الأساسية لتبادل المعلومات حول الأحداث والجرائم التي تحدث في المجتمع ولفت الانتباه إليها. وانتشر التضليل الإعلامي على نطاق واسع ما زاد من تفاقم الصراع الطائفي والمخاوف الأمنية.
دمشق - يواجه السوريون صعوبة في التمييز بين الحقيقة والادعاءات الكاذبة حول الحوادث الأمنية في مختلف أنحاء البلاد، والعثور على معلومات دقيقة حول قرارات الحكومة المحلية والمركزية، في ظل صعوبة الوصول إلى المصادر الموثوقة ما يجعل تحرير سوريا من قبضة فيسبوك أمرا ليس سهلاً أو سريعاً.
وسلط المجلس الأطلسي الضوء على غياب الإعلام الرسمي في سوريا ضمن بحث أعده الباحث في الأرشيف السوري جريجوري ووترز، وقال إن انطلاق أول قناة إخبارية تلفزيونية حكومية في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 5 مايو هو خطوة صغيرة نحو إعادة بناء قنوات التواصل بشأن الأمن والحوكمة في جميع أنحاء البلاد، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به.
وفي ظل نظام الأسد كانت جميع وسائل الإعلام الرسمية تابعة للدولة، سياسيةً بشكل علني، وخاضعةً لرقابة مشددة. واعتمد معظم السوريين على فيسبوك للحصول على الأخبار المحلية وتجنب الرقابة. لكن منذ سقوط النظام واجه العديد من السوريين صعوبةً في مواكبة الأحداث الجارية والمراسيم الرسمية والأخبار المحلية.
وفي ظل غياب أي قناة رسمية جديدة واضحة، لجأ معظم السوريين إلى وسائل التواصل الاجتماعي لملء الفراغ المعلوماتي. وقد أدى هذا الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، كما كان متوقعًا، إلى انتشار واسع للمعلومات المضللة في جميع أنحاء البلاد. كما استغلت جهات خارجية سيل الأخبار غير الموثوقة، وهو ما زاد من تفاقم الصراع الطائفي والمخاوف.
السوريون من جميع الطوائف يتبنون رواياتٍ متباينة للأحداث الأمنية الكبرى، ويكافحون لفهم المواقف الدبلوماسية
ولا يوجد مكانٌ أكثر تأثيرًا من ساحل سوريا ذي الأغلبية العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. حيث اعتمدت هذه المجتمعات منذ 8 ديسمبر 2024 على وسائل التواصل الاجتماعي لرفع مستوى الوعي بالجرائم الطائفية التي يرتكبها المدنيون وقوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة والبحث عنها. لكن هذه البيئة سرعان ما غمرتها ادعاءات كاذبة ومضللة عن مجازر وتدخل دولي، مدعومة بأحداث حقيقية وتصريحات مربكة من السلطات الانتقالية.
كل هذا غذى الذعر والارتباك حتى قبل انتفاضة 6 مارس والمجازر العلوية التي أودت بحياة أكثر من 1600 من قوات الأمن والمدنيين السنة والعلويين، في ظل غياب مصدرٍ متواصلٍ للأخبار الموثوقة، وتبنى السوريون من جميع الطوائف رواياتٍ متباينة للأحداث الأمنية الكبرى، ويكافحون لفهم المواقف الدبلوماسية للدول الأجنبية أو لتقييم وضعهم الأمني في مناطقهم. ويمتد هذا الغموض أيضًا إلى جميع تفاصيل سياسات الحكومة الانتقالية، والآن المؤقتة، وقوات الأمن.
وتسيطر وسائل التواصل الاجتماعي على النظام البيئي للمعلومات، بدءًا من مطاحن الشائعات وانتهاء بحملات التضليل الدولية. وقد استخدم السكان المحليون والمسؤولون مجموعات واتساب وصفحات فيسبوك لملء فراغ التواصل، لكنهم فشلوا حتى الآن في إنشاء خطوط واضحة للاتصال الرسمي.
وأجّج الفراغ الإعلامي الخوف والكراهية، وأثار حالة من عدم الاستقرار نتيجةً للانعدام الأمني. كما أدت الروايات الموازية للوضع الأمني الراهن إلى المزيد من الانقسامات الطائفية.
وعلى مدى ما يقرب من عقدين من الزمن منذ إنشاء فيسبوك، تطورت منصة التواصل الاجتماعي إلى آلاف الصفحات المجتمعية والجماعية وصفحات المشاهير التي تتنافس في الكثير من الأحيان على المتابعين والزيارات اليومية. وكثيراً ما تروج خوارزميات فيسبوك لهذه الصفحات الإخبارية العامة ذات الزيارات العالية على صفحات الأخبار المحلية الأكثر دقة والأقل زيارة، ما يغرق السوريين بأخبار غير مؤكدة على غرار أساليب الإغراء.
ولطالما كان فيسبوك منصة التواصل الاجتماعي والأخبار المهيمنة في سوريا، ووسيلة أساسية لتبادل المعلومات حول الجرائم التي تحدث في المجتمع ولفت الانتباه إليها. وانتشر التضليل الإعلامي على نطاق واسع منذ الأيام الأولى للثورة عام 2011، وسرعان ما ظهرت اتجاهات مماثلة في خضم الفوضى التي أعقبت انهيار النظام.
وشهدت كل محافظة وقرية، بل وحتى حي، سقوط النظام والتطورات بشكل مختلف. حيث تحمل الأخبار المحلية، وربما أكثر من الأخبار الوطنية، تداعيات مهمة على الأمن المحلي، وإمكانية الحصول على الخدمات، وآثارها على الحياة اليومية. على سبيل المثال أصبحت المعلومات المتعلقة بالعنف الذي ارتكبه كل من المتمردين والفصائل الموالية للحكومة في السادس من مارس حيوية للبقاء، لكن الادعاءات الكاذبة شوّهت الأحداث الحقيقية، حيث لجأ الجميع إلى وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن إجابات.
وبالنسبة إلى العديد من العلويين جُمعت كل هذه الادعاءات معًا لإثبات مدى “الإبادة الجماعية” التي تعرضوا لها عقب سقوط الأسد. ولكن مع دحض هذه الادعاءات الزائفة، أصبحت دليلًا للكثير من السنة على أن الوفيات الحقيقية للمدنيين العلويين والجرائم التي ارتكبتها القوات الموالية للحكومة لا بد أنها مُلفّقة أيضًا. ونتيجةً لذلك، لدى الطائفتين اليوم روايتين منفصلتين تمامًا عن ذلك الأسبوع، وتحولت الكثير من محاولات الحوار بين الأديان منذ ذلك الحين إلى نقاشات حول الحقائق الأساسية. وقالت إحدى السيدات في اللاذقية ببساطة “المشكلة الأكبر هي فيسبوك.”
في ظل نظام الأسد كانت جميع وسائل الإعلام الرسمية تابعة للدولة، سياسيةً بشكل علني، وخاضعةً لرقابة مشددة واعتمد معظم السوريين على فيسبوك للحصول على الأخبار المحلية وتجنب الرقابة
وكانت البيئة الإعلامية في مارس مثالاً مصغراً على كيفية استخدام الأخبار الكاذبة منذ سقوط الأسد لفرض حقائق متباينة بين مؤيدي الحكومة الجديدة ومعارضيها. لكن هذا التضليل يتجاوز المبادرات والشائعات المحلية.
كما سلطت التحقيقات الأخيرة، التي أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” ومؤسسة “تحقق” وصندوق مارشال الألماني، الضوء على دور الحملات الإعلامية الأجنبية المدعومة من إيران وإسرائيل وحزب الله في دفع الروايات الطائفية والأخبار المزيفة عبر الإنترنت، بما في ذلك الشائعات التي تفيد بأن ماهر الأسد كان عائداً إلى الساحل مع الجيش الروسي خلفه، مستعدا لاستعادة سوريا.
وهذه الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي والحملات الإعلامية الأجنبية تنشر الخوف والارتباك في مناطق الأقليات السورية، مستغلةً الانتهاكات الطائفية الحقيقية وافتقار الحكومة إلى قنوات إخبارية رسمية.
من جانبها بذلت الحكومة الجديدة بعض المحاولات الأولية لنشر معلومات حول أخبار البلديات، لكنها لا تزال تواجه صعوبة بالغة في إيصال بيانات أمنية واضحة أو إنشاء قنوات اتصال ثنائية فعّالة ليتمكن السكان المحليون من توضيح الشائعات.
وفي اللاذقية أبدى بعض السنة الذين تحدثوا مع المؤلفين حيرةً في آرائهم بشأن أنباء المجازر على الساحل. فهم لا يعرفون، أو ربما لا يريدون معرفة ما إذا كان ثمة مدنيون ضمن القتلى. وفي الوقت نفسه يُجادل العديد من الناجين في بانياس بأنه لم يكن هناك متمردون في المدينة، بل بدأت الأحداث بمذبحةٍ برعاية الحكومة. ولا تزال هذه الحقائق المتضاربة تُناقش على الإنترنت، لكنّ للخلافات على فيسبوك عواقبها على أرض الواقع.
ولن يكون تحرير سوريا من قبضة فيسبوك سهلاً أو سريعا. ومع ذلك يمكن للسلطات السورية والمنظمات الدولية اتخاذ عدة خطوات للمساعدة على بدء هذه العملية.