تحت سماوات مضمخة بالنوم والأدعية

الاثنين 2016/03/21

كانت لقطرة الدم في اللغة رنة مهيبة، ودلالة ثاقبة على النبل أو الوعيد، كانت لغة حمراء تسيل من جرح لا يزال حارا، بعد أن تنطفئ أعضاؤه جميعا. ومع أن هذه القطرة لم تفقد دلالاتها الكبرى على الندرة والنبل والكارثية، إلا أن قدرتها على إرعاب القاتل أو إنجاز وعيدها صارت موضع شكّ أحيانا.

وبعد أن أخذ الموت يفقد حضوره الصادم الجليل شيئا فشيئا، بدت قطرة الدم هذه وكأنها ضئيلة ومألوفة، لا تمثل تماما الدم الذي نعرفه، والذي خبرنا، بكل حواسنا المفجوعة، رائحته المرة، ودلالته على وعيد مضمر لكنه آت لا محالة.

ومع أن هذه القطرة تمثل الآن حشرجة القتيل، أو آهته الحمراء التي تندّ عن عنق مقطوعة، أو جثة لم تعد هويتها معروفة لأحد، إلا أنها صارت جزءا من موت كبير ومألوف، يتجدّد كل يوم ويمتدّ كأنه الأزل، موت تغذيه شعوب تتعذب تحت سماوات مضمّخة بالموت والأدعية.

ربما بسبب كثرة القتلى وتعدّد القتلة لم يتبق لقطرة الدم هذه الشيء الكثير من معانيها الأولى؛ فهي اليوم ابنة هذا الهلاك الذي يتهدد أمة تتوزع على قارتين، وهي اليوم جزء ضائع وحزين من بحور الدم مترامية الأطراف في ديارنا العربية المنكوبة، ومفردة طرية قانية في معجم الدم الشاسع، لذلك فهي تتضاءل أمام فداحة المعنى الذي يستعصي على التعبير الذي لا ينجزه إلاّ الدم بشساعته ووفرته.

الدم هنا أو هناك يتشابه تماما، والضحايا يشبه بعضهم بعضا، كما أن تشابه القتلة لم يعد خافيا على أحد، غير أن هؤلاء القتلة وحدهم سكان هذا النعيم الدموي الذي يرفلون فيه، وهم وحدهم القادرون على إرسال المزيد من الضحايا كل يوم إلى مكبّات القمامة أو ضفاف الأنهار، أو ثلاجات الموتى في مستشفيات لم تعد مهمتها إنقاذ الموشكين على الهلاك، بل التعجيل بهلاكهم الذي لم يكتمل تماما.

إن ما يمكن جمعه من استغاثات ذوي الضحايا، أو العائدين من الموت مصادفة، يكفي لإنجاز ملحمة غرائبية بحجم هذا الكون الخالي من الرحمة؛ فثلاجات الموتى قد لا تشتمل على جثة الضحية كاملة، رغم أن موتها كان كاملا بطريقة بالغة النذالة، وحين يتسلم ذوو الضحية ضحيتهم، هذا إن كانوا محظوظين حقا، فعليهم أن يتوجهوا إلى أكثر من مكان. أحيانا لا توضع الجثة بكامل أعضائها في ثلاجة واحدة، لا بدّ من حرمانها، وهي ذاهبة إلى الموت، من يدين قد تشيران إلى القتلة، ولا بدّ أن تكون بلا رأس، فالرأس وملحقاتها سلاح من أخطر أسلحة الضحايا. العيون قد تصرخ، والأفواه المحشوة بالصمت والرصاص قد تنقضّ على صمتها المعتم، وقد تقوم من قبرها المعدني الضيق فجأة.

لا بدّ لذوي الضحايا أن يجمعوا أشلاء ضحاياهم، وأن يتحوّل كل واحد منهم إلى إيزيس، في الأسطورة المصرية القديمة؛ أن يعيدوا تجميع أشلاء الضحايا من أكثر من موضع جزءا جزءا، وشلوا شلوا، وآهة آهة، حتى تصبح كل ضحية قادرة من جديد على الوقوف بكامل موتها، وتستعيد مرة أخرى قدرتها على العويل أو الاحتجاج. هذا ليس ضربا من ضروب الخيال، ترتجله مخيلة شرسة أو نفس مأخوذة بالتهيّؤات، بل هو بعض من واقع تصنعه طواحين الدم وآبار الكراهية كل يوم.

ليس لقصائدنا من مهرب إذن من هذا الطوفان، فهي تعيش عرسا دمويا لا يهدأ، يصيب لغتها بالذعر ويدفع بموضوعاتها إلى منطقة من الهذيان الكابوسي المريع، والدعوة إلى هذا العراء الدامي عامة لجميع المنخرطين في دائرة الوعي خلال هذه اللحظة التاريخية المهلكة، أو الشهادة عليها بصدق.

لا أظن أن هناك واقعا أشدّ شراسة وهمجية مما نحن فيه الآن؛ حياة تتهاوى، وبلدان خربة، وكرامات تنتهك، وبشر تفتك بهم أمراضهم، وجهلهم وطيبتهم، وهم مازالوا يتمدّدون منذ قرون تحت سماوات مضمّخة بالنوم والأدعية.

شاعر من العراق مقيم في الإمارات

14