تبييض المعتقلات السوريّة أولا

هل بات خروج معتقلي الرأي وسجناء الضمير من أقبية سجون الأسد قريبا؟
الأحد 2019/10/06
محفظة مثقلة بالمعتقلني في انتظار مستشار ترامب الجديد

المتابع للمشهد السياسي المتقلّب بسرعة غير مسبوقة في حكم البيت الأبيض الأميركي، لا بد له أن يستشف برنامجا بعينه أراده الرئيس دونالد ترامب من تعيين مبعوثه الخاص لشؤون تحرير الرهائن، روبرت أوبراين، في منصب مستشار الأمن القومي إثر إقالته للمستشار جون بولتون.

وقد غرّد ترامب على حسابه الخاص في تويتر قبيل تعيين أوبراين قائلا “يسعدني الإعلان عن ترشيح روبرت أوبراين الذي حقّق الكثير من النجاحات في منصب المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون تحرير الرهائن في وزارة الخارجية، مستشارا جديدا للأمن القومي”.

وكان أوبراين في منصبه الوزاري السابق رئيسا لإدارة المفاوضات الخاصة بالرهائن يحظى بدعم وزير الخارجية، مايك بومبيو، وعدد من كبار الجمهوريين في الكونغرس. أما في موقعه الجديد مستشارا للأمن القومي وثاني أقوى رجل بعد الرئيس في البيت الأبيض، ومع هذا التأييد الواسع الذي يحظى به في الإدارة، سيتمكن أوبراين من إحداث العديد من الانفراجات على مستوى الرهائن والمعتقلين السياسيين الأميركيين في العالم، ومن موقعه سيشير على الرئيس بالضغط على الدول ذات التاريخ الأسود في الاعتقال السياسي، وفي مقدمتها إيران وسوريا، ليدفعها تحت ضغط العقوبات والحصار إلى إنهاء ملف الاعتقال السياسي وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين تعسّفا في سجونها السوداء.

ولم يأت مصادفة أول تصريح لمندوبة الولايات المتحدة الأميركية إلى الأمم المتحدة، كيلي كرافت، في الاجتماع الشهري لمجلس الأمن المخصّص للشأن السوري وتزامنا مع إطلاق اللجنة الدستورية في الجلسة عينها من قبل المبعوث غير بيدرسن، حيث قالت “هناك  ما يقارب 128 ألف سوري لا زالوا قيد الاحتجاز التعسفي؛ هذه الممارسة غير مقبولة وعلى نظام الأسد إطلاق سراحهم”. ودعت كذلك إلى السماح للمراقبين الدوليين بالدخول إلى السجون في سوريا.

تداعت لذاكرتي إثر سماعي نبأ تعيين أوبراين وتصريح السفيرة كرافت مشاهد لتاريخ طويل من الاعتقال السياسي في سوريا وقد شهدها العالم في  مجموعة “صور سيزر” التي صدمت الرأي العام الشعبي والحكومي العالمي، وهي تكشف بالزمان والمكان عن مصير معتقلي الرأي في سجون بشار الأسد ونظامه البوليسي، صورا لم يشهد التاريخ المعاصر لها من رديف في حجم التوحّش الذي وجههه الأسد الابن ومن قبله الأب إلى أجساد أبناء جلدته في هولوكوست سوري امتد لعقود، ستكون خاتمة مقترفيه محاكم جرائم الحرب، وبئس المصير!

أطلق منصور العمري، الناشط الحقوقي الشاب والمعتقل الأسبق في سجون النظام، ملف الاعتقال السياسي في واشنطن عبر عرضه في “متحف الهولوكوست” قطع قماش هرّبها من مكان اعتقاله. وقد كتب عليها المعتقلون أسماءهم بدمائهم. شرح العمري لزوار المتحف كيف كتب هو ورفاقه أسماءهم على قصاصات القماش باستخدام عظام الدجاج بعد غمسها بدم من لثّات أسنان السجناء، وبالصدأ المتراكم على أبواب المعتقل الحديدية.

أما فدوى محمود، زوجة المعتقل السياسي الطبيب عبدالعزيز الخيِّر ووالدة المعتقل ماهر طحان، فلا تتوقف عن رفع صوتها عاليا قاصدة حكومات العالم الحرّ ومنظماته الحقوقية والإنسانية، وبرلمانات شعوبه، بهدف الضغط على حكومة دمشق للإفراج عن المعتقلين السوريين، تنفيذا لما هو شرط فوق تفاوضي في بناء الثقة خلال عملية الانتقال السياسي، ويتمثّل في الإفراج عن معتقلي الرأي كافة من معتقلات النظام السوري دونما تأجيل أو مماطلة، وتبييض زنزانات الرعب، وطيّ ملف الاعتقال السياسي إلى غير رجعة.

مصير زوج فدوى وابنها ما زال مجهولا منذ أربع أو خمس سنوات وحتى لحظة كتابة هذه السطور، بعد أن تمّ اختطافهما على يد المخابرات السورية أثناء عودتهما من الصين إثر مشاركتهما في جولة مباحثات بشأن العملية السياسية في سوريا. وكل ما عُرف عن مصيرهما كان من خلال بعض وسائل الإعلام حين أعلنت أن فرع المخابرات الجوية اعتقل الخيّر ورفيقيه إياس عياش وماهر طحان، في طريق عودتهم من المطار إلى دمشق بعد مغادرته بنصف ساعة، وذلك في تاريخ 21 سبتمبر للعام 2012. ومن الجدير بالذكر أن الخيّر من مواليد مدينة القرداحة- مسقط رأس حافظ وبشار الأسد.

منصور العمري ينقل شهادات عن معاناة الأسرى داخل المعتقلات
منصور العمري ينقل شهادات عن معاناة الأسرى داخل المعتقلات

أطلقت فدوى مع عدد من أهالي المعتقلات والمعتقلين منظمة “عائلات من أجل الحرية” من مدينة برلين حيث تقيم بعد خروجها القسري من سوريا، فحالها لا يفترق عن حال الآلاف من الأمهات والزوجات والعائلات السورية التي فقدت ابنا أو بنتا في معتقلات النظام السوري، ولم تتمكن من معرفة مصيره حيث لا اتهامات حقيقية، ولا مذكرات توقيف شرعية، ولا محاكمات نزيهة أو علنية.

حتى زيارات الأهل قد تكون معدومة أو نادرة في معظم الأحيان، إلا في حال قضى المعتقل تحت التعذيب، حينها فقط قد يتم استدعاء ذويه لاستلام حاجياته، والتوقيع على إقرار أن الموت حدث لسبب مرضيّ طبيعي. وغالبا ما يُمنع ذوو الشهيد من إقامة مراسم العزاء له أو الاطلاع على حال جثمانه.

أما سجون الحليف العقائدي للأسد دولة الملالي في طهران فلا يختلف الحال في معتقلاتها أو في أقبية “سجن إيفين” للحرس الثوري الإيراني عما هو في “سجن صيدنايا” سيء الذكر. وكان لآخر الضحايا ممن قدّر لهم الخروج أحياء من براثن الحرس الثوري، خبير المعلوماتية اللبناني نزار زكا، والذي تجمعني به صداقة قديمة نشأت من الحماس الذي أبداه منذ الأيام الأولى للثورة السورية، وكذلك دعمه ودعم محيطه من اللبنانيين لمطالبنا المحّقة ولتحرّكنا السياسي.

نزار تم اختطافه على طريقة قطّاع الطرق وهو يغادر العاصمة طهران  مدعوا من قبل نائبة الرئيس الإيراني حسن روحاني لمؤتمر دولي للمعلوماتية في العام 2015. اقتيد نزار معصوب العينين إلى سجن إيفين حيث احتجز هناك لمدة أربع سنوات دون تهمة واضحة توجّه له عدا تلفيقهم لاتهام بالتجسس لصالح دولة أجنبية (وفي حالة نزار الدولة الأجنبية كانت الولايات المتحدة)، وما زال العديد من المعتقلين الأجانب رهائن في السجون الإيرانية بنفس التهمة.

قال لي نزار ودمعة شفافة تتحرك في زاوية عينيه يحاول أن يقبض عليها بتماسكه الذي أبهرني منذ عودته إلينا في واشنطن “أصعب شيء يا مرح  وأشد إيلاما من التعذيب هو أن يشعر المعتقل أن العالم في الخارج قد نسيه ولم يعد يذكره إلا في ما ندر”، وتابع “هذه هي لحظة الموت الحقيقي بالنسبة لمعتقل لا ذنب له ولا جرم ارتكبه كحالتي”.

يشترك الحليفان، النظام السوري والنظام الإيراني، بالغلو في ممارستهما للاستبداد السياسي، وللعصبية العقائدية التي يرجع إليها كل طرف حسب حاجته وبالطريقة التي تخدم سيطرته واستمراره في الحكم.

فدولة الملالي التي تتخذ من الدين والطائفة قناعا للتعمية عن أهدافها بعيدة المدى في السيطرة على المنطقة وثرواتها عن طريق ميليشيات إرهابية عابرة للحدود درّبتها وسلّحتها وأطلقتها لتنهش من لحم الاستقرار والأمن في دول الجوار، دولة الملالي تلك التي دخلت في حلف شيطاني مع بشار الأسد تعينه من خلاله على البقاء في السلطة مقابل أن يعينها على تنفيذ مخططها التوسعي الممتد من طهران إلى سواحل المتوسط والبحر الأحمر.

فصل المقال أنه بوصول روبرت أوبراين إلى الموقع الأكثر قوة في صناعة القرار الأميركي، ومع إطلاق الأمم المتحدة للجنة الدستورية السورية تحت مظلة قرارات مجلس الأمن 2254 و2118 وإطلاق السفيرة كرافت لتصريحها تزامنا مع الدستورية، والبدء بإجراءات بناء الثقة التي قاعدتها إطلاق جميع المعتقلين من أجل الشروع بالعملية السياسية، وتسليم الملف للسفير المخضرم في العمل الدبلوماسي والمفاوضات السياسية، غدا تحريك ملفّ الاعتقال التعسّفي استحقاقا محتوما في الظرف الراهن ليكون الإفراج عن الرهائن السوريين في سجون الأسد في مقدّمة الإجراءات المعتمدة لتأمين البيئة الآمنة التي ستسمح بالشروع بالعملية الدستورية مهيّئة الأرضية القانونية للانتقال السياسي الكامل في سوريا.

محفظة عبدالعزيز الخيّر هي آخر ما احتفظت به زوجته فدوى قبل مغادرته منذ ست سنوات لم تره بعدها ولا تعرف عنه أي معلومة تروي ظمأ الانتظار. تحمل فدوى المحفظة أينما حلّت، وهي موجودة دائما في حقيبة يدها، بل رافقتنا في كافة الاجتماعات السياسية التي كنا نقوم بها خلال جولات المفاوضات السورية التسع في جنيف ضمن مجموعة السيدات السوريات الاستشارية. فهل خروج الخيِّر إلى جانب عشرات الآلاف من معتقلي الرأي وسجناء الضمير من ظلمات أقبية الأسد إلى أنوار سوريا الحرة الجديدة بات قريبا.. أتساءل!

4