تبسيط العلامة وإدراك الخطاب في تجربة التشكيلي العراقي غسان غائب

في تسعينات القرن الماضي، تردد اسم غسان غائب كفنان متميز وسط الساحة الفنية العراقية، ومن تلك الفترة إلى يومنا هذا، وهو يترك أثرا من وقائع تجديد العمل الفني وخطابه الصوري معتمدا على آليات تبسط قيمها الجمالية وسط أعمال من الرسم ومن الفن التركيبي. وبقدر ما تتعلق ممارسته الإبداعية بسلوك منطلق من مثابرة ومواكبة للجديد، فان حساسيته العقلية تحيل عوامل ومركبات العمل إلى محايثة سيميائية. وهي حصيلة مراقبة جادة يعيها في متغيرات فكرة تكوين الرسم لديه.
هذه المحايثة لم تكن ميدانا لتجريب فاعلية الرسم وتأثيره في نفسية وعين المتلقي لرؤية أعماله إنما هي طبيعة متعلق بذهنية غسان غائب والتي يحكمها عمق تصنيف الفكرة المراد توظيفها سيميائيا وإنتاج دلالة قابلة للمتغيرات الطارئة. وأقصد هنا ملاحقة ثراء الفكرة وتوظيفها في عالم الرسم ، لقد أرانا غسان من قبل تكريسا فنيا لجهده التجريدي وقدم منجزا بقي محط أنظارنا ولكنه في خطواته الأخيرة قاده الاكتشاف لتأكيد وظيفة الإشارة السيميائية وهي ليست أيّ وظيفة.
فلو عدنا إلى تقسيمات ومميزات بيير جيرو لتلك الإشارة لاكتشفنا أنها تنهض على ثلاثة أبعاد الأول دلالي والثاني تركيبي والآخر وظيفي. ومن أسس هذه الرؤية استمدت منجزاته الأخيرة قواعد عملها وخاصة المحاولات الصورية المتعلقة بشكل الفراشة وحركتها وطبيعة صياغتها البنائية في التكوين النهائي وهي حركة استمدها من أفكار تنظيرية تنسجم مع الطرح الاقتصادي والسياسي وعوالم الإنسان الاستهلاكية وبعيدا عن الغور في تلك التوجهات نذهب لما يهمّنا من بعد جمالي يتجلّى في مظاهر غائية تلك الإشارات وأنساق العلامات فيها.
أتحدث هنا تحديدا عن تشكيلاته ومتعة رسم الفراشة سواء كان بالرسم أو بالأدوات التركيبية، ففي عمله الموسوم بـ”شيخوخة فراشة” والمتكون من قماش مع ورق مطبوع ديجيتال برنت وأكريلك وزفت على قماش وبقياس 90×180 سم 2016 بدت صورته الخالصة وكأنها تحوّل ونسف لقيمة بدائل الثوابت.
فمن يراقب عن كثب تمثيله الفني يكتشف أنه تشكيل تدميري يجاري حوادث وأسباب الخسارة الإنسانية، فالعمل موزع لمركبات متعددة تنطوي عليها تشخيصات صور ثنائية هي بحاجة لمن يعطي المتلقي حقائق عنها. فهذا التفكير في نوع العمل وإنجازه لم يأت من فراغ ولم يكن زخرفة لفن تجريدي، بل هو مظهر لوقائع سياسية مخادعة أوصلتها نداءات داخلية لروح غسان إلى هذا الشكل على العكس من أعماله التجريدية السابقة التي حافظ فيها على اتجاه تهذيب الأشكال.
فالأمر هنا بدا مختلفا جراء تماسك العلاقات التي أشرنا لوظيفة الإشارة فيها ومثل هكذا تطبيق يبدو فيه انسجام تعدد الإشارات وكأنه نتاج علاقة تركيبية يسميها بيير جيرو بالأبعاد الوظيفية للإشارة على العكس من عمله الموسوم بـ”صناعة وطن” والتي كانت أدواته نموذجا لماكينة خياطة من المعدن مع أسلاك معدنية وقماش ملصق عليه قماش مطبوع طباعة ديجيتال قياس العمل فيه 180x51x10 سم 2016، فالأمر هنا مختلف إذ يقترح مشاركة المتلقي متنقلا بين جهات عدة لرؤية العمل وكأنه أقرب للنحت منه للفن التركيبي.
أرانا غسان من قبل تكريسا فنيا لجهده التجريدي وقدم منجزا بقي محط أنظارنا ولكنه في خطواته الأخيرة قاده الاكتشاف لتأكيد وظيفة الإشارة السيميائية وهي ليست أي وظيفة
وهذا النظام الإشاري ينشئ تدوينا لأفكار مشتركة ضمن تخطيط خاص يفتقد لمرجعيات وأصول بينما يستند لتفاصيل واستعارات وتواصل علاماتي، وحسب وجهة منظّري المنهج السيميائي يسمّى بالأبعاد الدلالية التي تشترك فيها الإشارة مع القيم الاجتماعية، ومثل هكذا أعمال فنية غالبا ما تذكرني بمقولة موكارفسكي “لكل فن من الفنون إشارة جمالية.. ثم إن كل فن له إشارة ثانية هي ايصالية”، هذه المقولة القديمة يعمل عليها غسان غائب ليرينا النزعة الاستهلاكية التي يتبناها الإنسان اليوم وكأنه خاو من أيّ قيم روحية، وهذا ما يجعلني أؤكد أن فكرة اشتغال غسان على الفراشة بأشكالها وتقلباتها هي نمط بنائي لإشارات استهلاكية. أما في عمله المسمى “صعود مقدس” المتكون من قماش وورق مطبوع طباعة ديجيتال مع أكريلك وعيدان خشب وزفت على قماش وبقياس 150×150 سم، فقد أظهر لنا قدرة أخرى من الفن التجريدي ليوازن بين آثاره النفسية وحقله الدلالي وهو عمل يضعنا عند تصور لمتعة الرسم وكيفية صياغاته بحقائق مادية.
وهنا لا بد من التأكيد على خطاب خاص بأن الفن التجريدي الذي يسعى لإعلاء العقل والروح معا ما عادت مقولاته السابقة من التنظير حاضرة مع الأعمال المعاصرة ومنها ما يعمل عليها غسان، فهو يشير لاستهلاك القيم والسلوك الآدمي ويثير بمحمولاته التركيبية ما يتسرب للإنسان من دمار مادي وليس تماهيا تمثيليا روحيا، واجد أن قواعد هذه النزعة التأملية ليست غريبة على عقلية فنان مثل صديقنا غائب بعد أن وفر لنا عبر أكثر من معرض ما ينظم لنا صياغات الحداثة المادية وانعكاسها علينا.
في جوانب أخرى من تجاربه نجد ثمة منظومة من الأشكال تستحوذ في بنائها مظاهر مختلفة اعتمادا على نزعتها النفسية وأغراضها الوظيفية ويمكن هنا أن أشير إلى أعماله الجامعة لظروف الرسائل وتزويقها بمزيج من ميراث خيالي وتنوع مشيد استجابة لمقولات تجديد الخطاب الصوري، وبقدر ما يبدو النظام الشكلي لمنجزه الحامل للظروف بسيطا بمغذيات سماته في الكولاج وطريقة التركيب النهائي فإن دلالة حمولاته عمّقت من جدلية التركيب والاستعارة وإعطاء تصور لاندفاع شعوري تجاه غربة وسطوة البيئة المكانية التي يتواجد فيها غسان غائب، وهي استثمار لطاقات داخلية بحتة يتوجب علينا أن نعي بأن هذا الفنان في أعمال الكولاج واللصق التي اعتمدها مع ظروف الرسائل الشخصية قدم لنا تقنية شكلية ترتهن لمخيلة خاصة وتأمل ذاتي.
وهذا المساس الوجداني إذا شاء له أن يتعلق بحسيّات العاطفة ورقة التخاطب الوجداني فإن تحول الأشكال والتلاعب في تتابع آثارها نفسيا تفرض علينا نوعا من الانسجام معها لتجلياتها الواضحة، إذ ليست ثمة عقد بنائية أو تسويف في نوع التراكيب. هناك قواعد عمل مبسطة وغير هندسية تتخذ اتجاها معرفيا يحاكي مظاهر الروح والمخيلة وقبل كل ذلك وجدان المرء، وتنشأ هنا أنساق لا تبتعد عن أسس المنطق بل توجّه منظومتها في السطح التصويري بخيار شكلي يحمل رواسب اللاشعور، لهذا يتفق من يشاهد منجزه الجمالي بأن التجريد الخالص لأعماله موجه بنزعة فردية تضرب بإتقان الرسم وعملياته المركبة وحتى مراكز شواخصه وانتقائيته، وكأن مضاعفات معالم الرسم تستسلم لعلاقات نظام العلامة وإيجازها ولهذا تختزل الصورة مادياتها المؤثرة وتكون كشريط من الذاكرة يظهر معاينة التأثير الحسي ومقاربة الدلالة الصورية.
ناقد من العراق