تاهيتي من غير غوغان مجرد صخرة بركانية

لندن - تاهيتي بعيدة. لذلك لا تمكن زيارتها بيسر. ليس على المرء سوى أن يخترع سببا للقيام بتلك الزيارة من أجل أن يفهم خفايا نفسه. هناك شيء عبثي دفع بول غوغان للقيام بمغامرته. الهارب من باريس إلى جزر البولينيز التي صارت فرنسية منذ أعوام قليلة كان يبحث عن إلهام جمالي مختلف.
الفردوس على الناصية الأخرى
لا فرنسا صنعت من تاهيتي جنة أرضية ولا تاهيتي نفسها يمكنها أن تكون كذلك. غوغان هو الذي صنع خيالا سياحيا لتلك الجزيرة النائية. مثلما ألهمته تاهيتي رسومه التي تتسابق المتاحف على اقتنائها بملايين الدولارات فقد وضعها على الخريطة السياحية.
يذهب السائحون إليها اليوم مزوّدين بخيال الرسام الفرنسي الذي فر من آرل بعد لقائه صديقه فنسنت فان غوخ في المنزل الأصفر وكان لقاء عنيفا.
لقد خطط الاثنان لطيّ صفحة المدرسة الانطباعية في الرسم. فارقا سوية الانطباعية وكان عليهما أن يغادرا باريس إلى مكان آخر.
ولأن فنسنت قد اختار آرل مكانا لخلوته الفنية فقد التحق به صديقه غوغان ليكون ضيفا على المنزل الأصفر غير أن ذلك اللقاء انتهى بشجار أدى إلى أن يقطع فنسنت أذنه.
في الفيلم الشهير يؤدي أنطوني كوين دور بول غوغان. كوين في الفيلم لم يذهب إلى تاهيتي. وحده الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا استطاع أن يتبع خط غوغان في روايته “الفردوس على الناصية الأخرى”.
لا أحد قُدّر له أن يكشف عن مدينة غوغان الفاضلة مثلما فعل يوسا.
يترك غوغان وظيفته في سوق الأوراق المالية ويترك زوجته وأولاده ليذهب إلى آخر الأرض. أكان كل ذلك من أجل الرسم؟ لا شيء من الواقع. غير أن خيال الحقيقة يؤكد أن رساما فرنسيا كان مغمورا قد صنع خرافة جزيرة، هي اليوم مقصد سياحي يسعى الكثيرون إلى الوصول إليها من أجل تتبع خطى الرسام العظيم الذي عاش فيها مفتونا بنسائها.
المصرفي الذي هرب إلى الرسم
عاش بول غوغان (1848-1903) حياة غير مستقرة. قضى سنوات طفولته السبع الأولى في بيرو. عاد بعدها إلى فرنسا بعد وفاة والده. هرب من المدرسة في سن السابعة عشرة ليعمل بحارا ويجوب العالم لمدة ست سنوات.
في سن الثالثة والعشرين استقر في باريس وعمل في سوق الأوراق المالية وتزوّج من فتاة دنماركية أنجب منها خمسة أبناء. أثناء ذلك كان يمارس الرسم في أوقات الفراغ، تعرّف يومها على كاميل بيسارو الذي عرفه على بول سيزان وصار يرافقهما في رحلات الرسم الخلوية. في سن الخامسة والثلاثين ترك وظيفته ليتفرغ للرسم فانهارت عائلته بسبب إفلاسه. بقي وحيدا في باريس فيما ذهبت زوجته مع أبنائهما إلى الدنمارك.
لم ترحب به باريس رساما فرحل إلى بنما عام 1886 ليعود منها مفلسا. عام 1888 رافق صديقه فنسنت في الإقامة بالبيت الأصفر في آرل، جنوب فرنسا. رسما معا ورسم أحدهما الآخر وبسبب مزاجيهما المتمردين دخلا في مشكلات لم يجد غوغان حلا لها سوى بالرحيل إلى آخر الأرض، ليعيش هناك الحياة البوهيمية التي لطالما حلم بها.
|
استقر في جزيرة تاهيتي ليموت هناك في سن الخامسة والخمسين. غوغان الذي نعرفه رساما شهيرا اليوم هو نتاج تلك السنوات التي عاشها قريبا من الطبيعة كائنا فطريا وجد في الرسم وسيلة للتعبير عن إنسانيته التي أعاد جمال نساء تاهيتي صياغتها بطريقة لا يمكن تخيل وقوعها في باريس. لقد وهبته تاهيتي حياة عاشها بعمق فكان فنه مرآة لسعادته.
تاهيتي قبل غوغان وبعده هي جزيرتان مختلفتان تماما. اليوم لا يمكن الاكتفاء من أجل التعريف بالجزيرة بالقول إن تاهيتي تقع في المحيط الهادي ويبلغ عدد سكانها 180 ألف نسمة، معظمهم من البولينيزيين الذين هاجر أجدادهم من آسيا منذ مئات السنين وهناك أقليتان أوروبية وصينية. وبالرغم من أن الأرض البركانية قد وهبت تاهيتي أرضا خصبة لزراعة أشجار الموز وجوز الهند والببايه فإن معظم سكان الجزيرة يعمل في قطاع السياحة. هناك شيء عظيم ناقص في ذلك التعريف.
كذلك فإن كل السحر الذي ينطوي عليه جمال الجزيرة الطبيعي والذي يتجلّى في بحرها وحقولها وجبالها وفضائها الأزرق المفتوح لا يمكن أن يكون هو السبب الوحيد لإقبال السائحين عليها، فهي بعيدة عن العالم المتحضر. هناك جزر وسواحل كثيرة قريبة تنافسها بالجمال وقد تتفوق عليها.
يشعر المرء بالفضول فيذهب إلى نهاية العالم. سرّ ذلك الفضول يكمن في غوغان. فما لم يضف اسم ذلك الرسام الفرنسي إلى اسم الجزيرة فإن تاهيتي تظل عبارة عن صخرة بركانية منسية في جنوب البحر الهادئ.
وما لم تمرّ نساء تاهيتي اللواتي رسمهن غوغان بشغف نادر من نوعه في خيال المرء فإنه لن يتكبّد عناء السفر الطويل من أجل أن يرى أشجار جوز الهند مثلا.
مزيج من مواد مختلفة، صلبة وسائلة وغازية، توصل إلى اختراعها رجل وجد في الواقع البدائي نهاية القرن التاسع عشر مرآة لحلمه بنوع مختلف من الحياة المترفة.
لم يكن غوغان يملك شيئا غير أنه لم يكن فقيرا. لقد عثر هناك على نفسه.
حين نعرف أن معظم لوحات غوغان التي تصل اليوم أثمانها إن عرضت للبيع إلى مئات الملايين من الدولارات تحمل بطريقة أو بأخرى اسم تاهيتي فهي رسمت هناك يمكننا أن ندرك سبب شهرة تلك الجزيرة. كان غوغان يوم رسم تلك اللوحات هاربا من أوروبا. بالتحديد من قيم الجمال المتاحة أوروبيا وكان بطبيعته مغامرا غير أن ولعه بالرسم زاد من نسبة رغبته في الذهاب إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه روح المغامرة. فكانت تاهيتي المنطقة العذراء التي التقى الرسم فيها بالحياة، ليشكّلا قوة ضاربة لكل ما لم يكن غوغان مقتنعا به من أساليب العيش والرسم معا.
سيرة غوغان الحقيقية باعتباره رساما تبدأ في تاهيتي التي صارت لا تذكر في ما بعد إلا ويتقدم سيرتها اسم الرسام الفرنسي الذي جعل منها مفردة عالمية في القاموس الثقافي.
|
يُخيّل إلى كل من يذهب إلى تاهيتي أنه سيعيش مثل غوغان. وهو أمر يمكن التغاضي عنه لأسباب سياحية. ذلك لأن كل شيء قد تغيّر.
كان غوغان قد عاش نهاية القرن التاسع عشر حياة بدائية هي حلمه. عاشر نساء لم يكن يفهم لغتهن ورسمهُنّ كما لو أنهن آلهات الأولمب.
كان يجلس على الشاطئ في انتظار البريد القادم من فرنسا لا لكي يعرف شيئا عن الأثر الذي أحدثته لوحاته التي أرسلها من أجل العرض هناك بل من أجل أن يستلم ما يمكن أن يصله من أموال بعد بيعها. لم يتسنّ لغوغان معرفة الأثر العظيم الذي أحدثته لوحاته في الأوساط الفنية الفرنسية. كان رسامو المدرسة الوحشية قد وجدوا فيه رمزا ملهما وكان غيابه يضفي الكثير من الهيبة على تلك الرمزية التي كانت صناعة أوروبية بامتياز. لقد تحول غوغان إلى أيقونة فنية من غير أن يدري.
يوميات تصنع جزيرة
تاهيتي التي قدمها غوغان فنيا لا تزال معجزته. وهي معجزة تكشف عن حجم تأثير الفن في حياة الناس العاديين. لا أحد يفكر اليوم بشقاء غوغان وهو يعيش حياة بدائية. سعادة غوغان تكاد تكون هي العنوان السياحي للترويج لجمال تلك الجزيرة. سيُقال “لو لم تكن الجزيرة جميلة لما أنتج غوغان كل ذلك الجمال” وهو أمر يخضع للكثير من الجدل. ذلك لأن غوغان وهو الذي تدرب على أيدي الانطباعيين الفرنسيين الكبار لم يرسم من الجزيرة سوى نسائها، فكان كمَن يكتب يوميات جسده وهو يتعرّف على أنوثة مختلفة.
رسم غوغان في تاهيتي حياته كما عاشها في بيته البدائي الصغير. تلك الحياة ستكون بعد سنوات عنوانا لجزيرة اسمها تاهيتي.