تاء التأنيث ما زالت تفصل مهن النساء عن الرجال في الجزائر

الجزائر - رغم اختراق المرأة الجزائرية لبعض المهن التي ظلت حكرا على الرجل طيلة العقود الماضية، إلا أن حضورها يبقى رمزيا ولا يكفي إلا للتسويق السياسي ومضامين التقارير المختصة، فالإرادة السياسية لسلطات البلاد في فتح جميع الأبواب أمام المرأة، لا تزال تصطدم بسلطة اجتماعية ترفض إلى الآن عمل المرأة في الليل أو في سلكي الجيش والأمن أو ممارسة بعض الحرف الخشنة كالميكانيك والنجارة.
رفض قطعي تعقبه حسرة
تتحسر آمنة رنان، التي تخرجت منذ سنوات من الجامعة، على رفض أهلها فكرة انتسابها إلى سلكي الشرطة والجمارك، رغم الفرص التي أتيحت لها، ورغم حاجتها الماسة إلى عمل لمساعدة أسرتها على النفقات اليومية، وذلك بسبب أفكار وأحكام نمطية لدى والديها عن المرأة العاملة في القطاعين المذكورين.
وذكرت رنان (28 عاما) في حديثها لـ”العرب” أن “المجتمع الجزائري خاصة في ما يعرف بالمناطق المحافظة (الداخلية والريفية)، لا يزال ينظر بعين مغمضة للمرأة العاملة في بعض القطاعات والحرف، بسبب أفكار وأحكام نمطية، تعتبر انتساب البنت إلى سلكي الأمن والجيش أو العمل في الليل، هو تمرد على التقاليد والأعراف المتوارثة”.
وأضافت “هناك اعتقاد راسخ لدى معظم العائلات الجزائرية بأن عمل المرأة لا بد أن يتواءم مع طبيعتها ومجتمعها وتقاليدها، فهي حسبهم يمكن أن تكون في التعليم والإدارة والصحة.. مثلا، ووفق دوام معين، ولا يمكن بأي حال الانتساب لغير ذلك مهما كانت الفتاة محافظة على شرفها وأخلاقها، ورغم الوضع الاجتماعي للعائلة المتواضع، وحاجتي إلى عمل لتأمين مستقبلي، إلا أنني فشلت في إقناع والدي بالانتساب لمهنة الجمارك أو الأمن”.
الجزائري لا يزال يرفض انتساب زوجته لمهن يعتقد أنها محل ريبة، فالأعراف تصنف العاملة في بعض القطاعات في خانة الاسترجال
وتابعت “هناك بعض المهن والحرف لا تزال حكرا على الرجل، ولا تتواجد فيها المرأة إلا بشكل محدود رغم قدرتها على أدائها بكل امتياز، وتبقى النظرة الاجتماعية هي العائق الأول في المشكلة، فكل امرأة تشتغل في الليل أو تنتمي إلى قطاع نظامي، هي امرأة متمردة و’مسترجلة’، ولا تصلح لبناء أسرة بحسب تلك الأحكام”.
وترى فاطمة بوبكري، أستاذة علم الاجتماع، أن “عمل المرأة في الجزائر لا يزال يحتكم للتقاليد ولاعتبارات اجتماعية، أكثر من احتكامه لتكافؤ الفرص والقدرة على الأداء والكفاءة والإبداع، وهو ما جعل نسبة المرأة العاملة في البلاد دون المستوى المأمول مقارنة بالتعداد الكلي للنساء الجزائريات، فهي لا تتعدى حدود 20 بالمئة”.
ولفتت بوبكري في حديثها لـ”العرب” إلى أن “الظروف الاجتماعية وتعقد الحياة المعيشية في العقود الأخيرة، دفعا باتجاه إقبال المرأة الجزائرية على العمل، وعلى الاختراق التدريجي لبعض القطاعات والمهن، مستفيدة في ذلك من الإرادة السياسية لقيادة البلاد، فصرنا نراها سائقة تاكسي وقطار وفي الأسلاك النظامية، إلا أن ذلك يبقى استثنائيا رغم الترويج المتعمد له من طرف دوائر سياسية”.
تمرد واسترجال
لا يزال الرجل الجزائري يرفض في غالب الأحيان انتساب زوجته أو أخته أو أمه لقطاعات ومهن يعتقد أنها محل ريبة وسبب من أسباب الإيماءات المبيتة في الحي والقرية، فالتقاليد والأعراف لا تزال تفرض منطقها، وتصنف المرأة العاملة في بعض المهن والقطاعات في خانة التمرد والاسترجال وجلب العار لأهلها.
وشدد عبدالنور (30 عاما)، موظف في شركة اقتصادية، على رفض مبدأ عمل المرأة بدعوى التفرغ لشؤون البيت وتربية الأولاد، والسهر على رعايتهم ومساعدتهم في تعليمهم، لأن خروج المرأة للعمل أصلا سبب عدة مشاكل للمجتمع، حيث استشرت مختلف المظاهر السلبية في الشارع وتراجعت قيمة الأخلاق والقيم، بسبب التزامات الأب والأم في الشغل وإهمال الأبناء.
وقال لـ”العرب”، “لا توجد امرأة عاملة تستطيع التوفيق بين التزاماتها العملية والأسرية، والأبناء هم الذين يدفعون الثمن، فمهما كان دور دُور الحضانة إلا أنه لا يعوض مهمة الأم في البيت.. هذا في الحالات العادية، فكيف يكون الوضع بالنسبة للمرأة التي تشتغل في الليل أو تداوم بشكل نظامي ومنضبط؟”.
ويرجع المعارضون لعمل المرأة في بعض المناصب رفضهم إلى ما يرونه “احترام طبيعة وأنوثة المرأة التي لا تتواءم مع بعض المهن والحرف، وتقديس دورها في المجتمع، وليس لخلفيات أخرى”، وهو ما لا يقنع ضحايا المجتمع من النساء اللائي يملكن مؤهلات وكفاءات كبيرة في بعض المجالات، إلا أن نظرة المجتمع والأعراف لا تزال تحول دون تموقعهن اللازم في تلك القطاعات”.
وأضاف عبدالنور “لا أتصور أن أرى زوجتي أو أختي في ورشة ميكانيك أو سباكة.. الأمر يتنافى مع طبيعتها ليس لأنها زوجتي أو أختي، بل لأن رقة المرأة وأنوثتها لا تحتملان تلك المشاهد، ولكل مجتمع أحكامه ومعاييره، ونحن جزء من هذا المجتمع”.
وعلى النقيض ترى منى (ضابطة شرطة رفضت الكشف عن هويتها)، أن السبب في الحضور المحتشم للمرأة الجزائرية في بعض القطاعات المهنية والحرف، عائد إلى التراكمات الاجتماعية والمفاهيم الخاطئة عن الأخلاق والشرف، وإلى التوظيف السيء للقيم والدين، لأن الانحراف موجود في كل مكان، حتى داخل البيوت وليس في أماكن العمل فقط، والعفة أيضا موجودة في كل مكان كذلك.
وتذكر أنها “تحظى بكل الاحترام والتقدير من طرف زملائها الرجال في العمل، حتى خلال مداوماتها الليلية، وأن التزامها بعملها وشخصيتها أحاطاها بوقار لدى محيطها المهني والعائلي، خاصة مع ميولها الشعبية والاجتماعية، مما ساهم في كسر حواجز كانت تشعر بها خلال بداية مسارها العملي”.
حجب التراكمات الاجتماعية
مع اختلاف الوضع بين الحواضر والأرياف حسب الذهنيات الاجتماعية، حيث يسهل اختراق المهن الرجالية من طرف المرأة في المدن الكبرى، وتصعب في المناطق الداخلية والأرياف، تأتي الزراعة على رأس المهن التي تمارسها المرأة هناك رغم طابعها الخشن، حيث تظهر بكل أريحية في الحقول والبساتين وفي مواسم جني المحاصيل، جنبا إلى جنب مع الرجل وحتى احتكارها أحيانا في بعض المناطق، كما هو الشأن في منطقة القبائل.
ذرائع حماية خصوصيات وأنوثة المرأة في بعض المواقع المهنية، هي شعارات من أجل حجب نفوذ التراكمات الاجتماعية
وهو ما يؤكد أن ذرائع حماية خصوصيات وأنوثة المرأة في بعض المواقع المهنية، هي شعارات من أجل حجب نفوذ التراكمات الاجتماعية، فالمهن الزراعية تمارس بشكل واسع في الجزائر من طرف المرأة، رغم خصوصيتها المميزة، ودون حرج من الرجل الجزائري الذي يشاركها المهنة ويتركها لها وحدها في الكثير من الأحيان.
ويرى ناشطون اجتماعيون أن إقرار السلطات الجزائرية تخصيص حصة الثلث للمرأة في المناصب النيابية والسياسية، بقدر ما هو اعتراف بدور المرأة الجزائرية في المجتمع، وخطوة للارتقاء بها، بقدر ما هو اعتراف ضمني بأن الرفض لا يزال يطاردها في بعض المواقع، فما يفرضه القانون ليس كما الذي تفرزه القناعات.
ولا تزال العديد من الأصوات السياسية في البلاد، كما هو الشأن لبعض الأحزاب المحافظة والإسلامية، غير مقتنعة بحصة الثلث التي أقرها قانون الانتخابات العام 2012، وتعتبر ذلك تمييعا للمشهد السياسي، بسبب ما تصفه بـ”عزوف المرأة الجزائرية عن الممارسة السياسية والحزبية، وتفضيلها لمنصب العمل والبيت على حساب النضال”.
وهو ما يتنافى مع ما حققته في الميدان حيث أثبتت جدارتها في مختلف المجالات المهنية، بما فيها الانخراط في سلك ومدارس الجيش، رغم أن الرتب السامية لا تزال حصرية على الرجل، ويقتصر وجودها على حضور رمزي لأهداف سياسية، أكثر مما هو تتويج لقدراتها وكفاءاتها المهنية.
طموح الجزائريات في الوصول إلى مناصب عليا خاضع لمزاج المجتمع

يعكس ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الجزائريات وخاصة من خريجي الجامعات والمتعلمات تناقض المجتمع الجزائري الذي وإن آمن بتعليم المرأة، إلا أنه لم يفسح أمامها المجال لأخذ نصيبها من سوق الشغل ولم يتخل عن الأفكار التي تكرس اللامساواة بينها وبين الرجل في العمل.
ويرجح علماء الاجتماع أن أهم أسباب هذا التمييز ضد المرأة راجع إلى وضعيتها القانونية في الدستور الجزائري، حيث خيّم قانون الأسرة ومكانتها داخل المجتمع لمدة طويلة على قضايا حقوق المرأة.
إلا أن هذا القمع لطموحات الجزائريات المهنية لم يمنع ظهور نساء خلد أسماءهن التاريخ ورفعن علم الجزائر في المحافل المحلية والإقليمية والعالمية. والأسماء عديدة، من بينها الروائية آسيا جبار، وهي الشخصية العربية الأولى التي دخلت الأكاديمية الفرنسية كروائية جزائرية تكتب باللغة الفرنسية، وقد ورد اسمها في لائحة المرشحين لجائزة نوبل، وهناك لويزة حنون، وهي أول امرأة عربية تترأس حزبا سياسيا، وقد تمّ إدراج سيرتها في الطبعة الثلاثين من الموسوعة الأميركية “هوز هو عبر العالم” التي تضم السير الذاتية لأشهر الشخصيات العالمية في مجالات عدّة.
ولاقت الكاتبة والأديبة أحلام مستغانمي شهرة عربية واسعة، علما وأنها حائزة على جائزة نجيب محفوظ 1998 عن روايتها “ذاكرة الجسد”.
وكانت اللاعبة حسيبة بولمرقة، أول امرأة عربية تفوز بلقب عالمي عندما حققت المركز الأول في سباق 1500م بمدينة طوكيو في اليابان في ألعاب القوى عام 1991. كما لا تخلو قوائم مناضلي الجزائر على مر السنين من أسماء نسائية تركت بصمة عميقة في تاريخ الجزائريين النضالي.
وعلى الرغم من نقص التمثيل النسائي في البرلمان الجزائري، إلا أن الجزائر كانت أول بلد عربي تتخطى فيه نسبة مشاركة المرأة في الحياة السياسية 30 بالمئة، وهو ما وصفه التقرير السنوي الصادر عن الاتحاد البرلماني الدولي لسنة 2012 بـ”الإنجاز المهم”، بالإضافة إلى أن الجزائر تحتل المرتبة 126 من حيث مشاركة المرأة السياسية، فالمجتمع الجزائري ومن خلال الدستور ولا سيما المادة 31 منه، يعطي اهتماما كبيرا لمشاركة المرأة في السياسة.
لكن نسبة العاملات الجزائريات البالغة حوالي الـ20 بالمئة من مجموع عدد السكان الناشطين؛ أغلبهن يشغلن وظائف في مجال التعليم والصحة والقضاء.
ومع ذلك يبدو المشوار مازال طويلا أمام الجزائريات ليتخلصن مما اقترن بجنسهن من صور نمطية تحصر حضورهن في مهن ذات صلة بالدور التقليدي للمرأة، وتبعدهن عن وظائف مثل السياسة والاقتصاد.
ولا تكاد المرأة الجزائرية تختلف عن نظيرتها في المغرب العربي، فحضورها في الحياة السياسية لا مجال لمقارنته بالحضور الرجالي في المناصب العليا في الدولة وفي الأحزاب السياسية وفي المقاعد البرلمانية وغيرها، حيث لا تكلف النساء إلا بحقائب وزارية تنحصر في الثقافة أو التضامن أو الشؤون الاجتماعية أو التعليم، أما الحقائب الأهم مثل رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية أو الخارجية فإنها حكر على العنصر الرجالي.
وغالبا ما يتم التفويت في الحقائب الوزارية المتعلقة بالثقافة والأسرة والتعليم والسياحة وغيرها من المناصب الشكلية، مقارنة بمراكز صنع القرار، للعنصر النسائي بشكل ممنهج يهدف إلى الظهور أمام الرأي العام المحلي والأجنبي بمظهر الانفتاح وإشراك أحد قطبي المجتمع في حياة سياسية مشروطة ومحدودة. وعلى هذا النحو يبقى تفعيل النصوص القانونية الضامنة لحق المرأة في المساواة من قبيل الخطاب النظري والوعود.