بين قطاريْ شادية وياس خضر

أحب العراقيون الشاعر مظفر النواب ليس بسبب كتابه الشعري “الريل وحمد” الذي زينه ضياء العزاوي برسومه، بل بسبب القصيدة التي حمل ذلك الكتاب عنوانها بعد أن غناها ياس خضر.
وكان ذلك أول اختراق تحققه الأغنية الريفية في بداية سبعينات القرن الماضي للمجال الحيوي للأغنية البغدادية التي وصلت إلى الذروة مع أصوات ناظم الغزالي ومائدة نزهت ورضا علي وسليمة مراد وعفيفة إسكندر.
كان صوت خضر ينوح وهو يصرخ “يا ريل صيح بقهر/ صيحة عشق يا ريل”.
والريل هو القطار الذي مر بأرض العاشق حسب الرواية الشعبية المتداولة. يومها وجد ياس خضر له مقعدا في الصف الأول بين كبار مطربي العراق.
بعد سنوات فوجئ العراقيون بأن كاتب تلك الأغنية ينافس نزار قباني في شهرته على المستوى الشعبي.

أحبه الكثيرون بسبب قصائده بالعربية الفصحى التي شتم فيها النظام السياسي العربي ومن ثم انتقلوا إلى قصائدة بالعامية العراقية وصاروا يرددون بألم بالغ “مو حزن لكن حزين”.
كان مظفر وفيا للمشهد السياسي، لكن عاطفته لم تصل إلى مستوى عاطفة البغداديين التي تعرضت للانهيار بسبب رقتها في مواجهة الهجمة الريفية التي بدأت بقطاره.
كان يكفيهم وهم بمزاجهم المترف أن يمر القطار الذي يقوده كمال الشناوي قريبا من بيته لتغني زوجته شاديه “م الصبحية وأنا في الشباك مستنيه/ تهل عليا ويهل هواك/ م الصبحية”.
هناك فرق هائل من جهة الحمولة العاطفية والصوت الذي ينقل تلك الحمولة.
كانت شادية خلاصة الرقة فيما كان ياس خضر خشنا إلى درجة يمكن معها اعتباره معجزة للخشونة. ولكن خضر كان مطربا محبوبا بالرغم من حمولة الحزن العالية في أغنياته.
أحبه العراقيون لأنه كائن إنساني حزين. ذلك مفهوم، غير أنني فوجئت ذات زيارة إلى الشام بأن السوريين لا يملون من سماع أغنيته “أعزاز” من غير أن يلتفتوا إلى ما لديهم من أصوات قوية ومعبرة عن لوعة الغرام الراقي كما هو حال صوت صباح فخري الذي يرقص النثر قبل الشعر بين أوتار حنجرته.
هل كان ذلك الحب نوعا من التحية لمظفر النواب الذي أقام في دمشق الجزء الأكبر من حياته بالرغم من أن “أعزاز” كانت من تأليف الشاعر زامل سعيد فتاح؟
يحدث أحيانا أن الحب يصنع جغرافيا مجنونة لا تقف عند حدود المعقول. لم تكن “مرينا بيكم حمد” أغنية ياس خضر الأولى التي فتحت أمامه أبواب الشهرة.
كانت “الهدل” التي لحنها محمد جواد أموري هي تلك الأغنية. لقد التقى الحزينان في لحظة حزن عراقية سوداء يبدو أنها لا تنتهي.