"بين العالم وبيني" لتاناهاسي كوتس: العنصرية الأميركية في القرن 21

النّوبة، أرض السّواد، هو معنى اسم "تاناهاسي"، في اللغة المصريّة القديمة، والذي بات يتردد كثيرا في الصحافة الأدبية هذه الأيام بوصفه أقوى المرشحين لنيل جائزة "الكتاب القومي" الأميركية العريقة عن فئة "السرد غير القصصيّ"، والتي أعلنت قائمتها النهائيّة يوم الأربعاء 14 /10 /2015.
الأربعاء 2015/10/21
كيف سأعيش حرا داخل هذا الجسد الأسود؟

سائرا على منوال الشاعر والروائي والناقد الاجتماعي الأميركي جيمس بولدوين، مستلهما عمله الأشهر “النار في المرة القادمة” (1963)، يأخذنا تاناهاسي كوتس، في عمله الجديد “بين العالم وبيني” (دار سبيغل وغرو، 14 يوليو 2015) في رحلة أدبيّة شخصية تسبر أغوار العنصرية الأميركية في مطلع القرن الحادي والعشرين.

وإذ يتكوّن كتاب بولدوين -الذي يعدّه النقاد الأكثر تأثيرا حول العلاقات العنصرية في ستينيات القرن العشرين- من مقالتين، “هزّة زنزانتي: رسالة إلى ابن أختي في الذكرى السنوية بعد المئة على تحرير العبيد” (وهي مقالة في شكل رسالة تتناول الدور المركزي للعنصرية في التاريخ الأميركي)، و“نزولا على الصليب: رسالة من إحدى أصقاع عقلي” (والتي يتطرق فيها إلى العلاقات بين العنصرية والدين، مركّزا على تجربته الشخصية وعلاقته بالكنيسة المسيحيّة حين كان يافعا، ويتناول فيها أيضا الأفكار الإسلامية التي يعتنقها الآخرون في هارلم، حي السود الشهير في مانهاتن بنيويورك)، فإنّ كتاب تاناهاسي مكوّن من رسالة طويلة، في ثلاثة أجزاء، يوجهها الكاتب إلى ابنه المراهق ساموري.

يستلهم تاناهاسي عنوان كتابه من إحدى قصائد الشاعر الأميركي ريتشارد رايت، والتي تحمل ذات العنوان، ذاكرا ثلاثة أبيات منها في مفتتح الكتاب عتبة ومدخلا إلى نصه الجامع “وذات صباح حين عثرت في الغابة فجأة على ذلك الشيء،/ عثرت عليه في أرض عشبية تحرسها أشجار البلوط والدردار/ فتراءت تفاصيل المشهد القاتمة وهي تدفع نفسها بين العالم وبيني…”.

ثم يفتتح تاناهاسي الجزء الأول بمقطع من قصيدة للشاعرة الأميركية السوداء صونيا سانشيز “لا تحدثوني عن الشهادة،/ عن رجال يموتون كي نتذكرهم/ ذات يوم أبرشيّة ما./ إنني لا أومن بالموت/ على الرغم من أنني سوف أموت./ والبنفسجات كالصّنوج سوف تردّدني”. ثم يبدأ في الحديث إلى ولده، قائلا “أي بُنيّ، في الأحد الفائت سألتني مضيفة برنامج إخباري ذائع الصيت ما الذي يعنيه أن أفقد جسدي.

ثيمة الكتاب الرئيسية هي عنصرية الرجل الأبيض تجاه السود الذين باتوا يعانون من الموت المجاني
كانت المضيفة تذيع برنامجها من واشنطن العاصمة، وكنت جالسا في أستوديو ناء في الطرف الغربي الأقصى من مانهاتن. كان قمر صناعي قد قلّص الأميال التي بيننا، بيد أن لا ماكينة تستطيع أن تردم الهوة بين عالمها والعالم الذي استدعيت منه لأتحدث. وحين سألت المضيفة عن جسدي، تلاشى وجهها من الشاشة، مبدلين إيّاه بشريط كلمات كتبتها في وقت سابق من ذلك الأسبوع”.

ثم، وفي منتصف الرسالة، نرى صورة لتاناهاسي وهو يحمل ابنه، في تناغم مع الصورة التي جمعت جيمس بولدوين مع ابن أخته على غلاف إحدى طبعات كتابه الشهير آنف الذكر أعلاه، ثم وفي صورة أخرى، بعد عدّة صفحات من الأولى، نرى تاناهاسي واقفا أمام صورة لمالكوم إكس، الزعيم الإسلامي الأسود، وهو يقبض كف يده اليمنى، مشيرا بإصبع سبابتها إلى الأمام. ثم نراه، في ثالثة أخرى، وهو يقرأ كتاب المؤرخ البريطاني باسيل ديفيدسون “العبقرية الأفريقيّة”، وهو الكتاب الذي تحدث فيه ديفيدسون عن أفكار الشعوب الإفريقية وأنظمتها الاجتماعية ومعتقداتها الدينيّة وقيمها الأخلاقية وفنونها وأساطيرها الغيبيّة. ولأنّ عنصرية الرجل الأبيض تجاه السود هي ثيمة الكتاب الرئيسة، فلا بدّ لهذه الصور جميعها أن تكون بالأبيض والأسود. لا ألوان فيها غير الظلال القاتمة لعلاقات اللونين ببعضهما.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، يفتتح تاناهاسي رسالته الطويلة بمقطع من قصيدة للشاعر الأسود أميري بركه، صاحب “مقدمة إلى ملحوظة انتحار في عشرين مجلّدا”: عالمنا طافح بالأصوات/ عالمنا أكثر بهاء من عوالم الآخرين/ ولكننا نعاني، ونقتل بعضنا البعض/ ونخفق أحيانا في عبور الهواء/ نحن شعب جميل/ بمخيّلات أفريقيّة/ طافحة بأقنعة ورقصات وأناشيد مسجورة/ بعيون أفريقيّة وأنوف وسواعد،/ ولكننا نرفل في أصفاد رماديّة في مكان/ طافح بالشتاءات، حين لا نريد إلّا الشمس.

وأمّا الجزء الثالث والأخير من هذه الرسالة الطويلة، فيفتتحه تاناهاسي بالعبارة التالية لجيمس بولدوين “لقد أوصلوا الإنسانية إلى حافة النسيان: لاعتقادهم بأنهم بيض”.

ومما لا شكّ فيه أنّ مفتتح الخاتمة، هذه، والتي يختارها تاناهاسي لرسالته الطويلة، تتقاطع على نحو ما مع العتبة التي يفتتح فيها جيمس بولدوين كتابه “وأعطى الله نوحا علامة قوس القزح، لا ماءَ أكثر بل النار في المرة القادمة”.

إنها الحياة على حافّة النسيان إذن. الجسد الأسود وقد صار علامة للموت المجانيّ: كيف تعجز الدولة، ومن ورائها العقل الجمعي الأميركي، عن محاكمة رجال الشرطة البيض الذين يطلقون الرصاص على السود الأبرياء فيردونهم قتلى؟ صاخبا بهذا السؤال طورا، ثم هامسا به، في أطوار أخرى، نسمع تاناهاسي كوتس وهو يردّد، ليس في صفحات هذا الكتاب فحسب، وإنما في الصفحات الأولى من الجرائد وعلى أغلفة المجلّات “كيف سأعيش حرّا داخل هذا الجسد الأسود؟”

14