بين التعصب والطائفية أكثر من حرف عطف

رغم أن مطبخ البحر الأبيض المتوسط قد أصبح أكثر انتشارا في بريطانيا، إلا أن أصدقاءنا الانكليز ما زال كل مطعم يفتتح في منطقتهم يعد اكتشافا مهما بالنسبة إليهم، فلا يرتاح لهم بال إلا عندما يجربون أصناف الأطعمة التي يقدمها، وبسبب إطرائهم الكبير أثناء مقابلاتنا السابقة على مطعم إيراني افتتح أبوابه حديثا، في مدينة ايلينغ (غرب لندن) بالقرب من محل سكناهم، اقترح عليهم زوجي أن نلتقيهم فيه لتناول العشاء فتحمسوا للفكرة.
على أي حال، لم يكن الطعام الايراني بالجديد علينا فقد سبق لنا أن جربنا عدة أصناف في مطاعم متفرقة في لندن، ولكن الأهم من ذلك رؤية أصدقائنا الذين لم نلتقهم من قبل شهر رمضان.
كان لقاؤنا معهم دسما كالعادة، ليس بنوعية الأطعمة التي تناولناها فقط، بل لأننا جمعنا بين طبقين، واحد من الخضروات واللحم والآخر من خلاصة الأفكار المختلفة التي طرقناها وناقشناها.
السمة المهمة في الانكليز أنهم لا يذهبون إلى المطاعم لتناول الطعام واحتساء الشاي فحسب، إنما أيضا للدردشة وسرد القصص للتخلص من التوتر والقلق، ولذلك لم تخل جلستنا بعد العشاء من الضحك والأحاديث الودية المرحة، والتي لا يتبادلها أصدقاء من ثقافات متباينة، من دون أن تنتهي بالجدال عادة، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لنا ولأصدقائنا، لقد طرحنا فكرة العداء غير المبرر للآخر جانبا، وتخلصنا من مشاعر الاستعلاء والعنصرية التي تغذيها الأفكار المتعصبة المتحيزة، والتي ما زالت تملي على الكثيرين حياتهم.
بعد أن انتهت جلستنا هممنا بالخروج فرافقتنا النادلة التي أشرفت على خدمتنا أمام الباب، وفجأة وقع نظرها على قلادتي التي تحتوي على “خمسة” كما نسميها في تونس أو “كف فاطمة” مثلما هي معروفة في مجتمعات عربية واسلامية أخرى، فأبدت اعجابها بها ولم تكتف بذلك بل سألتني بالحرف الواحد “هل أنت شيعية؟”، أجبت عن سؤالها بتعجب “لا شيعية ولا سنية أنا مسلمة فقط!” ففسحت لنفسها المجال للتحدث باطناب عن طائفتها الشيعية قائلة “أنا من أهل البيت ولا أعترف إلا بهم”، وقالت الكثير من الكلمات لاستعلاء طائفتها، إلا أننا قطعنا ذلك الحوار العقيم، وودعناها وانصرفنا نحو المسرح.
أمام هذا النوع من الناس ليس من الأجدى مواصلة الحوار، بل الصمت وتقبلهم على شاكلتهم، لأنه من الصعب عليهم للغاية أن يتغيروا، وإن استمر صراخنا في وجوههم فلن يغير من الأمر شيئا.
لذلك، لم أشأ أن أقلب الصورة وأكون بدلا منها متعصبة، لأنني أؤمن أن كل مجتمع مليء بالمشارب الدينية والعرقية والإثنية، وهذا التنوع من المفروض أنه يوثق الأواصر بين الناس ويدعم أسس المجتمع، وأيضا لأنني ما زلت أعتقد ألا أحد يستطيع إخراج أفكار الناس ومعتقداهم من جماجمهم ويعوضها بما يناسبه، العالم مليء بالمعتقدات والآراء المتضاربة ويجب أن يتعايش الجميع معها بسلام.
ليس المطلوب منا التجرد من عقيدتنا وأفكارنا ومعتقداتنا التي هي جزء من هويتنا من أجل الآخر، لكن الأهم من ذلك أن نتقبل الآخر ونتعامل مع جميع الناس كما نحب أن يعاملونا.
أؤمن أن السبب الحقيقي في مشكلة الطائفية والعداء بين الآنا والأخر، ليس الناس بل مصالح الساسة ورجال الدين، لكن الأسوأ أن يكون الناس أداة لتسويغ الفكر المتعصب ويصل الأمر إلى حد العداء والكراهية للآخر والاعتداء عليه بالعنف وهذا ما أصبح سائدا في العديد من المجتمعات العربية.