بيع الريح للمراكب

فتحت منصات التواصل الاجتماعي فضاءات عالمية للتسويق والتجارة، والتعريف برجال الأعمال والمهنيين والحرفيين، وحتى من يبيعون “الريح للمراكب” وجدوا لأنفسهم مجالا مفتوحا، لبيع الأحلام والأوهام، والظهور بمظهر احترافي أمام عدسات الكاميرا.
في ظل عدم وجود ضوابط قانونية وأخلاقية واضحة تحكم الفضاءات الإلكترونية، ليس من السهل وضع قواعد خاصة للمنافسة، وما يمكن أن تخلفه من صدام وخصومات على المكانة الافتراضية، وقد تتحول هذه الفضاءات أحيانا إلى ما يشبه ساحات الحرب، تطغى عليها لغة الانفصام والانتقام والممارسات السادية. وهذه السلوكيات تكون أكثر وضوحا في مجالات العمل التي لا ينجح أصحابها إلا من خلال الترويج لـ”مواهبهم الخلاقة” عبر التفاخر ومحاولة لفت الانتباه.
حدثتني إحدى قريباتي كيف نشرت تدوينة على أحد غروبات فيسبوك تروج فيها لمهارات زوجها في مجال البناء والديكور، عله يحظى ببعض فرص العمل بعد أن طالت فترة بطالته، وكيف اختارت كلماتها بعناية فائقة، لكنها لم تضع في الحسبان أن يكون منشورها مصدر إزعاج كبير لأشخاص لا تعرفهم ومجهولي الهوية، يتهمونها بالكذب، ما وضع على كاهلها ضغوطا نفسية غير مرغوبة.
ليس هذا غريبا على أي حال، فالكذب سلعة ثمينة لم تعرف الركود عبر مختلف العصور، وتتصل بشكل لا انفصام فيه بطبيعة الأعمال ومضمونها، وأيضا بثقافات المجتمعات وبنمط حياتهم ووعيهم، وعندما يتعلق الأمر ببيع سلعة أو خدمة معينة، فإن القدرة على اختلاق الأكاذيب أكثر أسلوب يوصف بـ”الكفاءة” في بعض المهن، وعلى صعيد سياسات التوظيف.
المشكلة أن معظم الناس يدعون أنهم “علامة عصرهم وأوانهم” في كشف الأكاذيب، لكنهم قد يتخذون قرارات وخيارات شرائية في أقل من الثانية، حتى من دون أن يدركوا ذلك، ولا يكونون بالضرورة واعين بطبيعة ما قد يشكل عواطفهم وأفكارهم، التي قد تأتي بشكل متسرع.
بجانب ذلك، يشكل اللجوء إلى الخداع لإثارة حماسة الناس واصطيادهم عبر “طعم” التعابير البلاغية والوصفية والمصطلحات والاستعارات، أمرا إستراتيجيا في مجالات مهنية معينة. وقد ربطت عدة دراسات علمية بين الإبداع والكذب والتضليل، في ضوء أن الأشخاص الذين يعملون في مجالات إبداعية، يجدون أن من الأسهل عليهم إيجاد منطق وأسباب عقلانية لأكاذيبهم.
لكن من الواضح أن الأخبار ليست جميعها سيئة عندما يتعلق الأمر بطرق استخدام الخداع التكتيكي في مواقع التواصل الاجتماعي، فالمجتمعات البشرية المتقدمة تتماشى بطريقة متناغمة مع التطور التكنولوجي، وقد قدمت التكنولوجيا لكل واحد منا أساليب جديدة لتسويق ذاته والترويج لخدماته وأعماله، ودون ذلك يصعب الحصول على عملاء أو بناء مشاريع.
العبرة اليوم أصبحت بالقدرة على التفاخر وجذب اهتمام الآخرين، ولم يعد هناك أي معيار ثابت للمصداقية. بيد أن الأفكار الخلاقة لا تخرج إلا من الأشخاص الأكثر هدوءا وحكمة، ومن يتأملون الأمور بروية.