بيروت.. مدينة الحداثة التي تأبى أن تموت

هناك مدن راسخة في الذاكرة بما لها من تأثير يتجاوز مساحتها إلى مناطق أبعد بكثير، فالمدينة ليست فقط البنايات والبنى التحتية، إنها ثقافة كاملة وحياة وفكر وعادات وتواريخ وذكريات وأحلام وإبداع وأسرار وغيرها من مظاهر الحضارة البشرية. وتعتبر بيروت من المدن العربية بالغة التأثير منذ القدم، مدينة رائدة في الحداثة العربية، لكنها تواجه اليوم تحديات كبرى.
بيروت… من ذا الذي لم يقع في سحرها؟ هي ليست مجرد عاصمة، بل قصيدة تنبض بالحياة، وسيمفونية تعزفها الأزقة، وترتلها الشرفات، وترددها أمواج المتوسط حين تلامس شواطئها. هي درة الشرق، مدينة الحب والحلم، التي تجلت فيها أبهى صور الإبداع، وظلت رغم تقلبات الزمن نبعا لا ينضب، يفيض بالجمال والعنفوان.
في بيروت، كل ركن يحمل ذاكرة، وكل شارع يسرد حكاية. مدينة ولدت من رحم الحرف، وعاشت على إيقاع الكلمة، كانت وما زالت منارة للفكر، مسرحا للصحافة، وحاضنة للأدب والفن، حيث تسكن الأرواح العظيمة التي خطت أسماءها بحبر لا يجف. كيف نذكرها دون أن يتردد في الأفق صوت وديع الصافي العذب، أو شجن فيروز الذي يلون الصباحات؟ كيف نمر في أزقتها دون أن نستعيد وقع خطى جبران تويني، وطلال سلمان، وجهاد الخازن، أولئك الذين صنعوا من الحبر جسورا بين بيروت والعالم؟
بيروت ليست مدينة تزار وحسب، بل تجربة تعاش. حين تخبر أحدهم أنك في طريقك إليها، ترى الدهشة تتراقص في عينيه؛ فأنت على موعد مع مدينة عربية بنكهة أوروبية، مدينة لا تعرف المستحيل، حيث يلتقي الشرق والغرب في نسيج واحد، وحيث تختلط الأحاديث بموسيقى اللهجة البيروتية التي تشبه الغناء.
بيروت… “ست الدنيا”، كما ناداها نزار قباني بكل الحب، تبقى رغم الجراح، رغم الأزمات، ورغم التحولات، مدينة تأبى أن تموت… لأنها، ببساطة، الحياة نفسها.
مدينة الترف والجمال
المدينة الخارجة من تحت أنقاض الحرب، أبقت على سحرها رغم كل الجراح، وما زالت تتحدى وترفض الانحناء
في بيروت، لا تكن مجرد زائر عابر، بل اختلط بالناس، عش بينهم، راقب الصباح وهو يولد، وتأمل كيف تسهر المدينة حتى الفجر، وكأنها تأبى أن تنام. هذه المدينة الخارجة من تحت أنقاض الحرب، أبقت على سحرها رغم كل الجراح، وما زالت تلك المرأة الجميلة التي لا تنحني، والتي تغسل ثوبها من نهر الدم، وتمضي بخطوات واثقة.
في الطريق إلى بيروت، لا يستغرق الوقت سوى دقائق، فتجد نفسك أمام لوحة حية من الجمال والتاريخ. الفنادق القديمة استعادت بريقها، والمباني التي كادت تمحى بفعل الدمار عادت لتكون شاهدا على الصمود. قلب بيروت النابض يستقبلك، حيث مشروع إعادة إعمار الوسط التجاري، الممتد على مليون وثمانمئة ألف متر مربع، مشروع حوّل الركام إلى حياة، ليعيد للمدينة روحها التجارية والإدارية التي لطالما كانت في صميم هويتها.
تجاوزت بيروت محنتها، وانتصرت على الدمار، لكنها لم تفقد أسرارها. فمن الغريب أن الحرب لم تترك أثرا في بعض شوارعها، كشارع البنوك والحمرا، اللذين بقيا سليمين، كأنهما يشهدان على طابع بيروت التجاري وذكائها في مواجهة الأزمات. فهي، منذ الأزل، مدينة تجمع بين الشرق والغرب، بين الثقافة والتجارة، بين الماضي والحاضر.
شارع الحمرا… وحده حكاية لا تنتهي. سهر لا يخبو، حركة لا تهدأ، تناقضات تتعايش في سحر عجيب. هنا تلتقي الجدية بالطرافة، الرصانة بالخفة، الفقر بالغنى، الالتزام بالحرية. في هذا الشارع، يمر الجميع، رجل الأعمال، السياسي، الصحافي، العامل البسيط، المتقاعد الحالم، والمغامر الباحث عن فرصة.
هو شارع لا ينام، تراه يتألق تحت الأضواء، يمزج الليل بالنهار، كأن الحياة فيه وجدت بلا فواصل. كنت أتساءل: كيف يعيش الناس هنا؟ كيف تستمر الحياة دون أن تهدأ؟ كيف يتجدد إيقاعه كل يوم، كأن الشمس لا تغيب؟
وهناك، تلمح ما تبقى من أثر المثقفين، إذ كانت المقاهي قديما موطنا لهم، قبل أن تسيطر متاجر الطعام السريعة على المشهد، وقبل أن تختفي المكتبات شيئا فشيئا، كأن القراءة لم تعد أولوية، وكأن الكتب صارت جزءا من الديكور المنزلي لا أكثر.
كان شارع الحمرا يمثل كل ما كان ساحرا في بيروت خلال حقبة الستينات والسبعينات: أشهر دور السينما والمسارح في لبنان، ومقاه يرتادها مثقفون وفنانون، ومتاجر فاخرة تعرض وتبيع أفضل ما يمكن اقتناؤه، مواكبا لأحدث ما في العالم.
فقد شهد الشارع انتعاشا في الماضي من خلال سلسلة متاجر دولية وحانات ومطاعم نابضة بالحياة. أما الآن فقد تم إغلاق العديد من متاجره، وبات لاجئون سوريون، ولبنانيون يتسولون على أرصفته، كما تتراكم القمامة على أركانه: فمثل بقية أنحاء لبنان، اجتاح الانهيار الاقتصادي الشارع كعاصفة مدمرة.
شارع الحمرا
جاء الانهيار الاقتصادي في لبنان كإحدى تبعات حقبة ما بعد الحرب في البلاد. فقد أصبح قادة الميليشيات إبان الحرب هم القيادة السياسيون، واستمروا في السلطة منذ ذلك الحين. وتمكنوا في بعض الأحيان من إدارة اقتصاد مزدهر، لكنه واقعيا كان مخطط بونزي، استشرى فيه الفساد وسوء الإدارة.
وبدأ الانهيار في أكتوبر 2019، لما يسمّيها البنك الدولي “واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.” فقد انهارت قيمة العملة، وبالتالي فقدت الرواتب قوتها الشرائية، وأصبح الوصول إلى العملة الأجنبية، خاصة الدولار، في المصارف غير متاح، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني.
وبناء على كل ذلك بات نحو 82 في المئة من اللبنانيين يعيشون في فقر، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
ويظهر أثر الأزمة في شارع الحمرا، فقد أغلقت العديد من المتاجر أبوابها؛ لأن أصحابها لم يعودوا قادرين على تحمل إيجارات مرتفعة وفواتير شهرية ضخمة لمولدات الكهرباء الخاصة. وفور حلول الظلام تغلق المتاجر، أو من ما زال يعمل منها. وكذلك أصبح العديد من مصابيح الشوارع لا يعمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
خلال ذروة الستينات والسبعينات كان شارع الحمرا قلب أناقة عصر ما قبل الحرب اللبنانية، وكان يسمى “شانزليزيه بيروت”. وكان السائحون العرب والأوروبيون والأميركيون يتوافدون على متاجره ومطاعمه وحاناته الشهيرة.
مقاهي بيروت الثقافية كانت تمثل قلب المدينة النابض بالحوار والإبداع حيث جمعت بين الأدب والسياسة والفنون
كما كان في الحمرا أرقى دور السينما في العاصمة. ففي مسرح بيكاديللي غنت فيروز، وكان بإمكانك أن ترى المغنية العالمية داليدا تتجول فيه قبل تقديم أحد عروضها. كذلك أقام نجوم عالميون حفلات في لبنان، منهم لويس أرمسترونغ وبول أنكا.
ويقع شارع الحمرا في حي رأس بيروت غربي العاصمة وكان ولا يزال مكانا يتعايش فيه المسيحيون والمسلمون جنبا إلى جنب. كانت مقاهيه استراحة وملتقى للفنانين والمثقفين والنشطاء السياسيين، تهيمن عليهم الأفكار اليسارية والعلمانية والقومية العربية في ذلك الحين.
ونحّت الموجة الجديدة جانبا العديد من رموز المنطقة قبل الحرب، فحل محل مقهى مودكا الشهير، مصرف. وافتتح مطعم ماكدونالدز محل مطعم فيصل، الذي كان يفضله اليساريون العرب، أما مسرح البيكاديللي فبات مهجورا.
لكن الشارع اجتذب جيلا جديدا من الشباب جلب معه الروح التقدمية لثورات الربيع العربي لعام 2011. ومرة أخرى ازدان الشارع بالحانات، ولا يزال شارع الحمرا مكتظا خلال النهار، فالآلاف يأتون للعلاج في مراكزه الطبية، أو للدراسة في الجامعة الأميركية القريبة، وهي إحدى أفضل المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط. إلا أن شارع الحمرا ليس حمرا الماضي.
ولا ننسى في هذا المقام الإشارة إلى أن في شارع الحمراء، برزت مقاه شهيرة مثل الهورس شو، المودكا، الويمبي، وفيصل، التي استقطبت رموزا مثل نزار قباني، محمود درويش، وأدونيس، وكانت مسرحا للنقاشات الفكرية والأدبية. رغم تراجع دورها بعد الحرب الأهلية، عاد المشهد الثقافي لينتعش مع ظهور أمسيات شهريار ومقاه حديثة مثل برزخ ومربوطة، التي تمزج بين المقهى، المكتبة، والعروض الفنية، مما يؤكد أن بيروت لا تزال منارة للإبداع رغم التحديات.
تشوهات المدينة
في زيارة بيروت لا يمكنك أن تفوّت عليك زيارة سوق الأحد، أو سوق صبرا، فاللبنانيون يؤكدون لك إن فقدت شيئا في لبنان فإن مكانا واحدا يمكنك أن تجده فيه، هو سوق صبرا، الذي يتفرد بوضع غريب، فهو على هامش القانون دون أن يكون مطلوبا أمام العدالة.
الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، هكذا يوصف السوق الذي يحوي كل شيء، وأي شيء يمكنك أن تجد فيه أسطوانة مفقودة لأم كلثوم، كما يمكنك أن تجد فيه حذاء فقدته يوما على شاطئ البحر، تجار السوق يباهون بما يفعلون ولا يترددون بالمجاهرة بالمصدر غير القانوني لبضاعتهم، حيث يقولون إنهم يجنون أرباحا جيدة، إذ يتقاضون ثمن الأغراض التي لم يشتروها في الأساس، ولا تكلفهم ضرائب عليهم حين يفترشون الأرض والطريق لعرض المقتنيات المسروقة.
وحينما سألت أحدهم عن المعروضات، قال: إن الكثيرين يعمدون إلى سرقة ما يبيعونه أو يتسوّلونه، والدليل على ذلك أن جميع البضائع المعروضة تتألف من ثياب رثة، وأحذية مستعملة وغيرها من البضائع المتنوعة التي لا تجد تناسقا فيما بينها، وحينما تجولت في السوق وجدت الأطفال الصغار يهربون خوفا من السؤال.
ظلت بيروت ولا تزال من المدن العربية الراقية في فخار بنائها، وفي إطلالتها على البحر المتوسط، وخاصة صخرة الروشة الشهيرة، وكأنها بوابة المدينة على البحر، وفي نسماتها العليلة المنعشة التي تشرح الصدر، وفي اهتمامها بزوارها، وفي صحافتها وأدبائها المبدعين الكبار.
بيروت تحاول أن تحفر طريقها بين الركام تبحث عن أمل وتحاول استعادة بريقها الذي فقدته بسبب الصراعات
هذه هي بيروت، العاصمة اللبنانية الزاهية، الأنيقة، المحبة للسلام، والتي حملت مشاريع عمل متعددة، واحتضنت العديد من المؤتمرات، وكللت الغالبية منها بالنجاح، كما لا ننسى الدور الكبير الذي لعبه المواطن اللبناني، وما تحمّله من مشاريع قاسية، ومشاريع إنماء، ومنها انتقل إلى المشاريع التي أخذت من وقته وجهده الشيء الكثير، وخلفت وراءها الكثير من الشتات والخراب، والاغتيالات التي لحقت، وللأسف، بنجوم الساسة اللبنانيين الكبار!.
ويواجه اللبنانيون أسوأ أزمة مالية واقتصادية في تاريخ لبنان الحديث، وقد تراجعت معها قدرة مصرف لبنان على تلبية دعم الأدوية والمواد الأساسية والمحروقات، ما أدى إلى انخفاض مخزونها، وعدم توافر المحروقات في غالبية محطات الوقود التي أقفل قسم كبير منها.
وأخيرا ماذا يمكن أن أقول في ظل الوضع الاقتصادي المنهار؟ ففي كل عام كنت أحظى بزيارة بيروت. وهناك كنت أرى أجمل ما حبتْه الطبيعة، جبال لبنان الخضراء. وعلى مدى البصر زرقة البحر وامتداده.
كنت أرى في شروق شمس بيروت أشعة ذهبية، وقد ترامت على مساحة شاسعة من مخمل أزرق لا يحده البصر. كنت أشهد أروع وأجمل ما شيدته يد الإنسان. رأيت السان جورج، والفينيسيا. وشارع الحمراء، والروشة، وتمثال الحرية ـ ساحة الشهداء، وزوارق البحر، والياسمين هدية الزائر.
ولكن ماذا أرى اليوم؟ لقد رأيت لبنان يتخلى عن جماله، فتخلى جماله عنه. رأيت تفكك الروابط والضوابط، وانفراط العلاقات. رأيت تهريب المحروقات والخبز والطحين والدواء، وعدم القدرة على وقف ارتفاع أسعار الدولار يوميا في السوق المحلية بمعدلات قد تبلغ في اليوم نسبة 40 – 50 في المئة، وهذا أمر يسهم في التضخم الحقيقي وتقييد غالبية العائلات على تحمل أعباء نفقات العائلة سواء للانتقال، أقساط الأولاد، العلاج الطبي والصحي، الإيجارات، الضرائب البلدية والاستهلاكية، وعدم الوصول إلى حلحلة تأليف الحكومة الذي يخضع لارتهانات غريبة.
رأيت الأطفال يموتون من الذعر. ورأيت الآباء يسقطون قتلى وهم يحملون أرغفة الخبز إلى أطفالهم. ورأيت العمارات الشاهقة في بيروت وقد تهاوت، وغرقت في مشاكل لا حدود لها. ورأيت الخضرة، قانية الاحمرار. ورأيت زرقة البحر، بلون الدم.
ومع ذلك، تظل بيروت تحاول، تحفر طريقها بين الركام، تبحث عن أمل، عن حكومة تنتشلها من براثن التعددية الطائفية والصراعات السياسية، تحلم بعودة الحياة كما كانت، ولو بعد حين.
بيروت… كنت أراها مدينة جميلة، واليوم أراها مدينة مشوهة، بلا وجه. لكن، رغم كل شيء، تظل في القلب. بيروت التي أحببناها، سنظل نحبها، وسنظل ننتظر فجرها الجديد، لأن المدن العظيمة، وإن انحنت للحظات، لا تموت.