بيتر كوزمينسكي يغوص في أعماق حفرة داعش السوداء

يتحدث بيتر كوزمينسكي عن عمله الدرامي المثير للجدل الذي اهتم فيه بتنظيم الدولة الإسلامية داعش، مؤكدا "كنت أعلم منذ البداية أنه سيصدم الناس"، وذلك بعد سيل من الانتقادات التي واجهها والمرتبطة خاصة بتوقيت بثه.
السبت 2017/08/26
مأساة من الداخل

لندن- عاد بيتر كوزمينسكي، الذي وصفته صحيفة “تلغراف” البريطانية بـ”المخرج التلفزيوني الأكثر إثارة للجدل في بريطانيا”، هذا الأسبوع إلى دائرة الضوء بعد عرض أحد أهم أعماله حتى الآن، وهو مسلسل “الدولة” الذي بثت آخر حلقاته ليلة الأربعاء على القناة الرابعة البريطانية “channel4”.

وأخذ المسلسل على امتداد حلقاته الأربع المشاهدين معه إلى أدق التفاصيل داخل حياة تنظيم داعش بعدما سافر أربعة من الشبان البريطانيين إلى سوريا للانضمام إلى صفوفه. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية من تاريخ التلفزيون، اعتمد بيتر كوزمينسكي على إثارة صدمة المشاهدين في الدراما التي يعرضها.

ففي التسعينات من القرن الماضي، كان من بين الأوائل الذين أثاروا قضية إساءة معاملة الأطفال؛ وفي عام 2005 قدم عملا عن البناء الغامض لحرب العراق، حتى قبل أن يأخذ تحقيق لجنة تشيلكوت بعين الاعتبار.

وفي العام 2007 تناول قضية تطرف المسلمين البريطانيين في الوقت الذي لم يجرؤ فيه معظم الكتاب والمخرجين على أن يتطرقوا للموضوع. وقد سببت أعماله ضجة كبيرة، ولكنها فازت أيضا بعدة جوائز من الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون.

ويقول كوزمينسكي، البالغ من العمر 61 عاما والمولود لأبوين لاجئين من بولندا، “هذا العمل هو أول دراما باللغة الإنكليزية تحاول أن تنظر إلى ظاهرة الشباب من جميع أنحاء العالم الغربي الذين ينضمون إلى تنظيم داعش. كنت مهتمّا بهذه القضية المحددة؛ وكيف كان اتخاذ القرار بالسفر سيصمد أمام واقع العيش هناك يوما بعد يوم؟”.

بيتر كوزمينسكي: أعمالي، كلها تقريبا تصور الحالة التي يكون عليها البريطاني المسلم

وتعرضت القناة الرابعة البريطانية بسبب المسلسل إلى سيل من الانتقادات والهجوم عبر المواقع العالمية المختلفة وصفحات التواصل الاجتماعي، حيث عبّر المشاهدون عن عدم تقبلهم لطبيعة العمل وتوقيت عرضه في ظل الاعتداءات الإرهابية التي يشهدها العالم، بينما اتهمت عدة مواقع العمل بـ“تلميع” صورة التنظيم الإرهابي، وردت القناة البريطانية على هذا الهجوم بأن العمل تم بحثه بعناية ويرصد وقائع حقيقية.

وفقا لما ذكره الموقع الرسمي للقناة البريطانية، فإن المسلسل يرصد بشكل عام حياة مجموعة من الرجال والنساء المسلمين الذين يسكنون في بريطانيا ويقررون الرحيل للجهاد في سوريا، مدينة الرقة على وجه التحديد، للمشاركة ضمن صفوف داعش، بحيث تختلف قصصهم وخلفياتهم فيما تصطدم رغباتهم وأحلامهم بواقع مغاير داخل هذا التنظيم.

وتصدّرت الأصوات المعارضة للمسلسل بيثاني هينز، ابنة عامل الإغاثة البريطاني ديفيد هينز الذي قطع تنظيم داعش رأسه عام 2014، وكانت قد طالبت عبر موقع “الديلي ميل” بتأجيل العرض، مؤكدة أن آخر ما تحتاجه عائلات ضحايا تنظيم داعش هو مسلسل يسلّط الضوء عليها، حيث تمزّقت العديد من الأسر بسببه.

وفي المقابل، اعتبر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن قرار القناة البريطانية خوض هذه التجربة مثير للغاية. وأعلن تشارلي وينتر، الباحث في “المركز الدولي لدراسة التطرف” بلندن، تأييده لما شاهده في المسلسل، وصرّح لصحيفة الغارديان البريطانية، “يبدو أن العمل سبقه بحث طويل، أنا معجب جدا به، كما أن كمية كبيرة من المشاهد ترصد الدعاية الإعلامية التي يقوم بها تنظيم داعش، لذلك من الواضح أن الباحثين شاهدوا كمّا هائلا منها ليتمكنوا من إنجاز عمل واقعي بهذا الشكل”. وبالنسبة إلى كوزمينسكي يمثل مسلسل “الدولة” ضرورة في مرحلة ما.

وأضاف قائلا “من الصعب جدا أن نكون موضوعيين عندما نتحدث عن تنظيم الدولة الإسلامية، إنها طائفة دينية تشجّع على الموت بصورة مثيرة للاشمئزاز. كنت دائما أعتقد أننا لا يمكن أن نحارب شيئا ما، ما لم نفهمه أولا. أجد أن هذه الفلسفة التي طرحها رئيس الوزراء حول ‘أننا دائما ما نفهم أقل ونشجب أكثر’ تجعلك تشعر بشعور رائع، ولكن ماذا بعد ذلك؟ لا نزال حتى الآن نواجه الهجمات الإرهابية بالقنابل في شوارعنا، ولا يمكننا هزيمة التنظيم بالقوة العسكرية، وجنرالاتنا وقياداتنا يعلمون ذلك جيدا. كل الهجمات الإرهابية في وجهة نظري، سواء حدثت بسبب التمييز العنصري أو بسبب إحداث الاضطرابات، انتهت فقط بالجلوس والتحدث إلى الجانب الآخر”.

يعتقد بعض المشاهدين الآخرين أن هذا النوع من الخدع يعمل بشكل جيد. وكتبت البارونة سعيدة وارسي، وزيرة الدولة في حكومة ديفيد كاميرون السابقة والمرأة المسلمة الأولى في مجلس الوزراء، في مقالتها في التلغراف، أنه “في بعض الأحيان يظهر كوزمينسكي وكأنه يتبنى قضية الإرهابيين. أؤكد أن مسلسل الدولة لا يهدف إلى تجنيد أحد في التنظيم”.

ومن جانبه قام كوزمينسكي بتجنيد فريق من الطلاب الأكاديميين المسلمين لمدة 18 شهرا لبحث كل جزئية تتعلق بالموضوع. وكنتيجة لذلك استند كل حدث ورد فعل في المسلسل إلى شهادة أو تقرير حقيقي.

كشف ما يحدث في الظلام

ويقول كوزمينسكي “لتفصيل أحداث هذا العمل بأمانة، يجب عليك أن تظهر مدى الفرح والسرور اللذين يشعر بهما هؤلاء الناس بمجرد وصولهم، ثم تُظهر خيبة الأمل التي يشعرون بها بعد ذلك. سيُصاب المشاهد بانطباع مضلّل للغاية إذا توقف فجأة عن مشاهدة المسلسل. نأخذ على سبيل المثال شخصية ‘شاكيرا’، طبيبة بريطانية شابة وأم، ولدت وترعرعت في لندن، وهي ذكية ومتعلمة. ولكن كيف تقبل تلك القناعة الفكرية بأن تُدرّس تعاليم دور المرأة في الإسلام في نفس الوقت الذي تتلقى فيه معاملة دونية من قبل الرجال في سوريا، باعتبارها تافهة وغير مسؤولة؟ أتوقع أن القناعات الفكرية التي تم تشكيلها خارج التنظيم لن تقبل بإلغائها أو طمسها داخل التنظيم. كنت أقل اهتماما بتناول قضية التطرف، ولكننا الآن بصدد دراما يمكنها أن تجذب المشاهدين من أول ساعة من وقت العرض لتقول لنا شيئا لم نكن حقا نعرفه”.

وفي إطار التحضير لحلقات المسلسل، انغمس كوزمينسكي في أوراق الأبحاث التي عمل عليها فريقه، والمليئة بالمقالات والتصريحات التي صرّح بها الكثير من الجهاديين السابقين، في الوقت الذي كان يُخرج فيه مسلسل “وولف هول”، مسلسل قناة بي بي سي الحاصل على الجوائز. وتعليقا على ذلك قال كوزمينسكي “كنت أعمل على محكمة تيودور بإنكلترا صباحا وعلى تنظيم داعش في المساء”. وبتسارع تصوير حلقات المسلسل التي يتم جزء منها في جنوب إسبانيا، ظلت الأخبار تتحدث عن أبحاثه.

وتذكّر حادثة الطالبات البريطانيات الثلاث اللائي تم التقاط صور لهن بواسطة الكاميرات وهن يغادرن إلى سوريا في فبراير من العام 2015، كثيرا بكتابات كوزمينسكي في هذا الموضوع. وقال “تلك الحفرة السوداء المسمّاة بداعش ابتلعت هؤلاء الفتيات. فماذا يمكننا أن نفعل؟ يمكننا فقط أن نأخذ كاميرا الدراما ونفعل ما لا يمكن لأي كاميرا وثائقية أخرى أن تفعله في الوقت الراهن، وهو استخدام أبحاثنا لإبعاد الستار وكشف ما يحدث في الظلام؟”. ويرتدي كوزمينسكي زوجا من النظارات وهو قصير القامة، ويتحدث بلباقة ويختار كلماته بعناية وحكمة في الحديث.

ويرى أن مسلسل “الدولة” هو جزء من ثلاثية القناة الرابعة “تشانيل فور”، بعد مسلسل “ذا غوفرنمينت إنسبيكتور”، الذي يجسد فيه السير مارك ريلانس دور مفتش الأسلحة الحكومية في الأشهر المضطربة التي سبقت الحرب على العراق، ومسلسل “بريتز” لعام 2007 التي تدور أحداثه حول أحد المتطرفين المسلمين الذي يجسده الممثل ريز أحمد. وأضاف كوزمينسكي “كل تلك القضايا واحدة وتتناول سياق الموضوع نفسه من وجهة نظر معاصرة. أعمالي، تدور كلها تقريبا حول الحاضر وكيفية تصوير الحالة التي يكون عليها البريطاني المسلم الآن”.

18