بيتر دينكلاغ ممثل موهبته رسالته وطموحه أكبر من جسده

لا يمكن لأحد الحديث عنه دون أن يصفه بصانع المستحيلات في عالم الفن. هو من حول سلبيات ما أصابه خلقيا إلى نجاح منقطع النظير، وتمكن من الوصول إلى القمة متجاوزا كل العقبات وأهمها تلك الفيزيولوجية الملازمة له منذ الولادة، هو القزم جسديا والعملاق فنيا الممثل الأميركي بيتر هايدن دينكلاغ الذي نال شهرة عالمية من خلال دوره الشهير في مسلسل “صراع العروش”، وهو إحدى الشخصيات القليلة التي رافقت المشاهدين في جميع المواسم السبعة الماضية، وينتظره الكثيرون في الموسم الثامن المرتقب.
ولد دينكلاغ عام 1969 من أبوين متوسطي الحجم في بلدة موريستاون بولاية نيوجيرسي، الأب جون كارل دينكلاغ كان يعمل مندوبا لشركة تأمين، بينما عملت الأم ديان دينكلاغ كمدرسة موسيقى في إحدى المدارس الابتدائية.
عانى دينكلاغ في طفولته ومراهقته الكثير من مرضه “الودانة” وهو نوع شائع من القزامة، فكانت أيامه مليئة بالقلق والإحباط والغضب بسبب حالته غير العادية.
درس الطفولة
ولتلقي ابنها الكثير من السخرية من زملائه في الدراسة، انتقلت المعاناة إلى والديه اللذين كانا يردان على ذلك بالبحث عن مواهب طفلهما الدفينة وراء كل تلك المشاكل النفسية المتعلقة بجسده.
الأم كانت تلهي طفلها بالموسيقى ومشاهدة الأفلام، أما الأب فكان دائم الذهاب إلى المدرسة ومجابهة كل تمييز يناله بيتر هناك.
كان بيتر القَزم الوحيد في عائلته، لديه أخ وحيد أكبر يدعى جوناثان، شكل معه أولى شراكاته الفنية، حيث قدم الأَخوان عروض دمى موسيقيّة بمساعدة والدتهما.
صعوبات كبيرة واجهت دينكلاغ في إيجاد عمل كممثل، ويرجع ذلك جزئياً إلى رفضه في البداية الأدوار النمطية التي تُقدم إلى الممثلين في حالته. لكن بدايته الاحترافية الرسمية كانت من خلال فيلم "العيش في النسيان"، وهو عمل كوميدي درامي، يحكي قصة مخرج وطاقمه وممثلين يصورون فيلماً مستقلاً منخفض الميزانية وسط مدينة نيويورك
يصف بيتر أخاه جوناثان الذي يعزف الكمان، بأنه “صاحب الأدَاء الحقيقي في العائلة”، ويقول في مقابلة صُحفية إن شغف أخيه بعزف الكمان كان الشيء الوحيد الذي وقف بينه وبين متابعة التمثيل.
ومع الوقت، أصبح بيتر أكثر تساهلاً وتقبلاً لحالته الجسدية، بسبب أحلامه الفنية والانشغال بتنمية موهبته التمثيلية، كانت عيناه دائما تتجهان إلى السينما ولم يأبه للنظرات المستغربة عند دخوله صالات السينما لمشاهدة أغلب الأفلام الجديدة آنذاك.
أولى خطواته الفنية بدأت بسن صغيرة، فعندما كان في الصف الخامس توجب عليه أداء الدور الرئيسي لإحدى مسرحيات مدرسته، وتم استقبال المسرحية بالتصفيق الحار والتقدير من قبل الجمهور، وهذا ما عزز ثقته بموهبته، يقول دينكلاغ في إحدى مقابلاته التلفزيونية “لم أشعر حينها بالتعاطف من قبل الجمهور، بل رأيته تشجيعا وإعجابا بفتى صغير قدم دورا مبهرا، سعدت بدموع والديّ، وشعرت بفخرهما بي”.
واستمر في النشاط المسرحي وشارك في نادي الدراما حتى تخرج في مدرسة “ديلبارتون” عام 1987، وشارك بعدد من الأنشطة الفنية المختلفة عندما ارتاد جامعة “بينينغتون”، التي تخرج فيها عام 1991، وهناك أصبح له وزن فني بين زملائه الجامعيين الذين أخذوا يتعاملون معه على أنه فنان ينتظرون منه كل دور مسرحي ينسب إليه.
واجه دينكلاغ صعوبات في إيجاد عمل كممثل، ويرجع ذلك جزئياً إلى رفضه في البداية الأدوار النمطية التي تُقدم إلى الممثلين في حالته، وتعتبر بدايته الاحترافية الرسمية من خلال فيلم “العيش في النسيان” المنتج عام 1995 ، وهو عمل كوميدي درامي، يحكي قصة مخرج وطاقمه وممثلين يصورون فيلماً مستقلاً منخفض الميزانية في وسط مدينة نيويورك، لعب دينكلاغ دورا يشبه حالته الشخصية حينها وهو ممثل محبط يعاني من التقزم ويتذمر حول الأدوار المبتذلة المقدمة له، لقي الفيلم استحساناً من جانب عدد كبير من النقاد، لكنه لم يحقق النجاح الجماهيري الكافي لشغف الممثل الشاب.
بطل في نسختين لفيلم واحد
بعد عام شارك في فيلم الجريمة والدراما “رصاصة” من بطولة مغني الراب توباك شاكور، ويمكن القول إن هذا الفيلم حقق انتشارا جماهيريا لا بأس به، لكن رغم ذلك لم يستطع دينكلاغ إيجاد أحد ليكون وكيل أعماله، وهو الأمر الهام لأي ممثل في هوليوود.
بقي يشارك بأدوار يمكن القول إنها صغيرة وصولا إلى العام 2002، حين سنحت له الفرصة للحصول على دور مهم في الفيلم الكوميدي “13 قمرا” بسبب توصية من الممثل والمخرج الأميركي بوشيمي لمخرج الفيلم ألكساندر روكويل، وهي المرة الأولى التي أطل فيها على الجمهور كشخصية رئيسية في السينما.
في العام التالي كان دينكلاغ على موعد مع دور رئيسي آخر جلب له الانتشار الواسع بين محبي الأفلام الكوميدية من خلال فيلم “وكيل المحطة” إلى جانب كل من الممثل الكوميدي جوش بايس والممثل المخضرم باول بينجامين، نال دينكلاغ عدة جوائز على دوره في هذا الفيلم، واعتبر النقاد أنه كان البوابة الرسمية له للدخول بشكل جاد إلى منطقة الصف الأول في السينما الأميركية.
دينكلاغ من الممثلين القلائل الذين استطاعوا تجسيد دور سينمائي في نسختين، حيث كانت الأولى في الفيلم الكوميدي البريطاني “موت في الجنازة” في العام 2007 الذي حقق نجاحا كبيرا جدا، مما دفع المنتجين إلى إعادة صياغة نسخة أميركية بعد عامين، لكنها لم تحظ بالإقبال الجماهيري الكافي مثل ذلك الذي حققته النسخة البريطانية.
يجسد دينكلاغ منذ سنة 2011 شخصية “تيريون لانيستر” في مسلسل الفانتازيا والدراما الذائع الصيت “صراع العروش” الذي اجتذب أعداداً قياسية من نسب المشاهدة وكون مع مرور الوقت قاعدة جماهيرية واسعة ونشطة في كافة أنحاء العالم، كما حصل على إشادة إيجابية من النقاد.
المسلسل مقتبس عن سلسلة “الجليد والنار” لمؤلفها جورج آر.آر مارتن، واشترك كل من ديفيد بينيوف ودانيال بوب وايس في تأليف المسلسل المنتج من قبل قناة “اتش.بي.أو” الأميركية.
وتقعُ أحداث المسلسل في قارتين خياليتين هما “ويستروس” و”إيسوس” في نهاية صيف طويل امتد عقدا من الزمن، و تتصارع سبعُ عائلات للسيطرة على العرش الحديدي للممالك السبع، وفي الوقت نفسه يتصاعد الخطر على الممالك من جهة الشمال المتجمد من قبل مخلوقات خيالية.
مغامرة الحياة
كان دينكلاغ أول ممثل يُختار للمسلسل، من قبل مؤلفيه اللذين قالا عنه في أول لقاء جمعهما به إنه شخص ظريف وذكي، وكل ذلك جعله الخيار الأول لأداء الدور.
أما دينكلاغ فلم يكن على دراية بالشخصية، ولذلك كان متحفظا أثناء أول لقاء له معهما، ولكونه قزما فإنه قال لهما في بداية الحديث إنه لن يلعب شخصية “قزم أو جني”، رد عليه بينيوف ووايس بأن شخصيته مختلفة وأنها نوع جديد من فانتازيا صغار القامة الآخرين.
وافق دينكلاغ على تقمص شخصية “تيريون” في منتصف المقابلة، وكان سبب ذلك جزئيا حسب قوله “لقد أخبروني كم الشخصية ستصبح مشهورة”، وعلى الجانب الآخر قال الكاتب وايس “لو لم يوافق على تمثيل الدور، لا ندري ما الذي كنا سنفعله”.
تلقى دينكلاغ مديحًا هائلا على أدائه في المسلسل من أقلام النقاد في الصحافة الغربية، حيث كتب عنه ماثيو غيلبرت من صحيفة بوسطن غلوب قائلا “يقدم دينكلاغ أداءً ممتازًا لشخصية ساحرة وغامضة أخلاقيا مدركة لذاتها”، وكتبت صحيفة لوس أنجلس تايمز تقول “إن صراع العروش ينتمي بعدة أشكال إلى دينكلاغ”، فيما أشار دان كواس من صحيفة نيويورك تايمز إلى أن أداء دينكلاغ جعل الشخصية أكثر شهرة وأضاف نجاحا كبيرا للمسلسل.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد وضعته عام 2011 ضمن قائمة لثمانية ممثلين حولوا التلفزيون إلى فن حقيقي يوازي السينما في النجاح والانتشار.
فاز دينكلاغ عن أدائه لشخصية “تيريون” بجائزة الإيمي لأفضل ممثل مساند في مسلسل درامي من سنة 2011 و2015، وكذلك جائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثل مساعد سنة 2012، ونتيجة لأدائه الرائع والناجح أُعطيت لدينكلاغ زيادة في الأجر، ويقال في الصحافة الأميركية إنه أصبح عام 2014 رفقة أربعة من زملائه في المسلسل، الأعلى أجرًا على شاشة التلفزيون.
تزوج دينكلاغ من المخرجة المسرحية إريكا شميدت، بعد علاقة حب بدأت منذ لقائهما الأول في “برادوي”، حيث كانت إريكا تخرج مسرحية شارك بها هو، وهناك ارتبطا فنيا واجتماعيا وأنجبا في العام 2011 طفلتهما الأولى، وقررا العيش في مدينة نيويورك لأنه يفضل دوما أن تبقى عائلته بعيدة عن الإعلام.
يعيش دينكلاغ في العام الحالي نجاحا سينمائيا كبيرا بعد قيامه ببطولة مطلقة لثلاثة أفلام، ومشاركة في فيلمين آخرين، وهو يعقد آمال كبيرة على فيلمه “اعتقد أننا نعيش وحدنا الآن” الذي طرح في دور العرض السينمائية في الـ14 من شهر سبتمبر الجاري، وتدور أحداثه حول قصة شخص يعزل ليستطيع النجاة عند نهاية العالم، مواجها العديد من الصعاب التى تساعده على تقدير نعمة العزل.
يشارك دينكلاغ في بطولة الفيلم عدد من النجوم منهم شارلوت جينسبور، وبول جياماتي، وهو من إخراج ريد مورانو، وتأليف مايك ماكووسكي.
إحدى كلمات دينكلاغ التي أثرت في الجمهور كثيرا كانت تلك التي قالها في حفل توزيع جوائز الغولدن غلوب عام 2012، بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل مساعد، قال في خطابه للجمهور إنه كان يفكر بشأن رجل اسمه مارتين هيندرسون، وهو شخص من إنكلترا يعاني من داء التقزّم، أُصيب بجروح بليغة إثر قيام مشجع “الرغبي” برميه أرضاً خلال جلوسه في حانة، خطاب دينكلاغ استرعى اهتمام وسائل الإعلام وعامة الناس لظاهرة التنمر ضد الأقزام كما تردد اسم هيندرسون على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واسع عالمياً.
دينكلاغ يرفض باستمرار العروض التي تقدمها له برامج حوارية تلفزيونية لمناقشة مواضيع متعلقة بكونه “قزما”، وقد أوضح لاحقا أنه كان ليَقبل هذه العروض قبل 20 سنة لكنه الآن يعيش بسلام مع حالته الجسدية، وأضاف “لقد قلت ما أردت قوله خلال حفل الغولدن غلوب ورسالتي أظن أنها قد وصلت إلى الكثير من الأشخاص الحقيقيين”.
لم يعد بيتر دينكلاغ قزما كما كان، على الأقل هكذا تراه أعين مئات الملايين من المشاهدين في أنحاء العالم وكذلك عدسات الكاميرات والصحافة والمخرجين والفنيين.