"بوليس مْكَتّف" طبق شهي للانتقام

سأل ابن أختي الصغير والدته ماذا أعدت على وجبة الغذاء؟ فردت عليه ضاحكة “بوليس مْكَتّف” (رجل شرطة مقيّد)، فاستعجب الطفل الصغير هذا الاسم الغريب الذي يسمعه لأول مرة وأثار فيه الكثير من الحيرة، فأمطر والدته بوابل من الأسئلة، باحثًا عن إجابة تبدد استغرابه، لكنه أشعل أيضا نيران فضولها.
هرولت أختي نحو جهاز الكمبيوتر تبحث عن تفسير لما يخفيه هذا الاسم، غير أنها عجزت عن إيجاد إجابة شافية وأكثر قدرة على تفسير معنى اسم الطبق الذي تعلمت إعداده حديثا، ورددت اسمه على مسامع ابنها الصغير.
وعلى الرغم من أنه من الصعب تتبع تاريخ هذا الاسم ومصدره الأصلي بسبب تعدد الروايات الشعبية حوله، يرجّح البعض أن تونس لقبت قبل عقود بـ”الدولة البوليسية” لاتسام العلاقة بين المواطن التونسي ورجل الأمن بالتوتر والصراع، ولذلك استخدمت هذه التسمية للسخرية من رجال الأمن والحط من مكانتهم، وقد تُعزى إلى رفض الخضوع لهيمنة رجال الأمن على الحياة العامة والحريات الشخصية.
حب استطلاع ابن أختي دفعه إلى طرح سؤال إضافي عما إذا كان البوليس يحب هذا الطبق؟ ما أدخلنا جميعا في نوبة ضحك هستيرية.
بدت أسئلة ابن أختي شيئا عابرا بلا هدف، لكن في الواقع إطلاق التسميات على أطباق الطعام ليس أمرا محايداً، فهي دائماً تحمل دلالات تعني أكثر من مجرد إطلاق تسمية على صنف من الطعام رغبة في لفت النظر، بل هي تعابير تكشف أمورا في غاية الأهمية، فالإنسان كائن اجتماعي بامتياز.
من بعض القصص المتداولة والمشهورة في تونس أن المواطن التونسي الذي يريد أن ينتقم لنفسه -ولو رمزيًّا- من رجل الأمن الذي قد يضيّق عليه الخناق أو يثير غضبه يطلب من زوجته أن تعد له طبق “بوليس مكتف”، وعندما تضايقه حماته يطلب من زوجته إعداد طبق “ركايب العزوزة (رُكب العجوز)”، وحينما لا ينصفه القاضي يطلب منها أن تقلي “وذنين (أذنيْ) القاضي”، وجميعها أطباق تونسية تقليدية شهيرة.
لا شك في أن هناك جهدا وفكرا كبيرين يوظفان لابتكار بعض الوجبات والأطباق الدسمة والأطعمة التقليدية المتنوعة، وهناك أيضا أوصاف ونعوت تطلق عليها لتشد الانتباه، وتؤثر على أفكار الناس ومشاعرهم وسلوكياتهم، وقد تحمل بعض الأسماء دلالات ذات طابع فكاهي، أو تحيل على معان انتقامية تبدو مغطاة بدهاء.
وفي ثقافتنا العربية تستخدم اللغة الوصفية بشكل واسع النطاق في مجال صناعة الطعام، حيث تتوافر الكثير من أساليب الإيحاء السلبية في تسميات بعض الأطباق، مثل الطبق التونسي التقليدي الشهير “بوليس مكتف”، وتوجد عدة أمثلة أخرى لتسميات أطباق تحمل رسائل مبطنة غايتها التكيف مع المواقف الضاغطة في المجتمع.
ولا يبدو أن ثمة خاسرين فعليين من هذه الأطباق التي تشبه لعبة تنتقل فيها المفردات المجازية همساً من شخص إلى آخر، لتظهر المفارقات البلاغية في النهاية، مع تفوه آخر اللاعبين جهراً بالكلمة، التي ربما طرأت عليها الكثير من التغيرات خلال انتقالها من فم هذا إلى أذن ذاك.
ميزة الأطباق أنها ليست كيانات جامدة، وإنما هي ديناميكية ومُفعمة بالحيوية؛ تتطور باستمرار لتلائم الثقافات والسلوكيات الاجتماعية والأذواق التي تسود في كل عصر ومجتمع مثل أي كائن حي، وهو ما يفسر حدوث تبدلات وتحولات اجتماعية تعكس نفسها في التفاعلات اللغوية الملائمة لظروف الزمان والمكان والناس.