بوريس جونسون سياسي مثير للجدل قد يدفع به البريطانيون لخلافة ماي

ينشغل الرأي العام في بريطانيا باللحظة السياسية الحرجة التي تعيشها المملكة المتحدة حيال مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسط تحولات سياسية داخلية لا تقل أهمية عن تلك القضية الحيوية. ويأتي إعلان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، قبل ساعات، أنها ستجري تصويتاً برلمانياً “مؤجلاً”، منتصف الشهر الجاري، على اتفاق خروج
لندن من الاتحاد الأوروبي ليزيد من اشتعال الجدل.
غوردون راينر محرر الشؤون السياسية في صحيفة ديلي تلغراف يقول إن بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق، يرى أن “الخروج بلا اتفاق من الاتحاد الأوروبي هو التصوّر الأقرب لما يريده من صوتوا لصالح الانفصال عن أوروبا”. مضيفا أن “تفاؤل وثقة الشعب البريطاني” بسيناريو الخروج بلا اتفاق أصبح محتملا بصورة كبيرة. ويوضح راينر أن ماي أمامها نحو أسبوع واحد فقط، لإنقاذ خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن مع إقرار مجلس الوزراء أن “لا أحد” يتوقع موافقة البرلمان عليها، أما جونسون فيرى أن الوقت حان لتقييم “واقعي ومنطقي” للخروج من الاتحاد.
صحيح أنه حديث عن صفقة “بريكست”، لكنه جدل يشي بأن التغيير السياسي في بريطانيا بات، على ما يبدو، ضرورة ملحّة، خصوصا بعد تنامي الانتقادات الموجهة لماي التي بدت غير قادرة على مواصلة قيادة تلك الصفقة.
فهل بدأ العدّ التنازلي في مسيرة ماي بالفعل، بعدما فقدت دعم أبرز حلفاء قادة الاستفتاء على الانفصال في 2016، عمدة لندن السابق ووزير خارجيتها المستقيل جونسون، الذي لا يخفي طموحاته لخلافتها وتقلّد أعلى منصب سياسي في البلاد؟
الأكثر غرابة
لكن البريطانيين لا ينسون أن فترة عمل جونسون على رأس الدبلوماسية البريطانية، تميزت، كما يقال، بانعدام الجدية واتباع نهج متعمّد للإغراق في التفاصيل. وصحيح أن جونسون لبس قناعا هزلياً أمتع من خلاله جمهوره المحلي، لكنه حيّر وأغضب بقية العالم. شهرة كبيرة اكتسبها الرجل، ومعها الكثير من الأنصار، عندما كان عمدة لندن، ثم حين تزعّم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ما جعل المراقبين يتوقعون توليه منصب رئيس الوزراء، وقيادة حزب المحافظين، بعد استقالة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون.
لكن جونسون في المقابل، اكتسب خصوما ومعارضين ينتقدون مواقفه وتصريحاته المثيرة، ويرون أنه غير جدير بتولي المناصب العليا في الدولة. فقد وصفه نائب رئيس الوزراء السابق في حكومة ديفيد كاميرون، نك كليغ، بأنه “دونالد ترامب لكنه يحمل قاموسا لغويا أكثر غرابة”.
ترامب بريطانيا
كان جونسون أحد أبرز وجوه حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتمكن من أن يحقق هدفه بإقرار البريطانيين في الاستفتاء رغبتهم في الخروج، وتبع ذلك استقالة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وهو الأمر الذي فتح لجونسون الباب للمنافسة، إلا أنه انسحب في آخر لحظة، بعدما تخلى عنه زميله في مشروع بريكست، وزير العدل وقتها ووزير البيئة حاليا، مايكل غوف الذي رشح نفسه لمنصب زعيم الحزب، وخسر في نهاية المطاف المنافسة لصالح ماي.
خطابه المتعصّب للقومية يجسّد أحد أهم أسلحة جونسون للانقضاض على السلطة في 2019، حيث يشعر معظم البريطانيين، وشق كبير داخل الحزب المحافظ بضرورة تغيير سياسي ما عقب بريكست الذي أضحى مولودا يكرهه الجميع. فقد جونسون الكثير من شعبيته داخل حزبه، بعد أن قاد معركة استفتاء الانفصال سنة 2016، لكن نجمه سطع مجددا بعد استقالته من وزارة الخارجية على خلفية صفقة بريكست التي رأى فيها انتصارا للاتحاد الأوروبي وتكبيلا لاقتصاد المملكة ومصادرة لحرية اختيارات شعبها.
أبرز مهندسي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خرج ذات يوم، بكل ثقة، ليحدّث الناس كرجل دولة يستند على شعبية ظهرت في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في كلمة مقتضبة يعلن خلالها أن هناك يوما جديدا مليئا بالفخر في انتظارهم، دون أن يلتفت لأسئلة الصحافيين، رغم أنه كان واحدا منهم ذات يوم. فمن المعروف أنه قبل أن يضع قدمه على طريق السياسة ويصبح وزيرا للخارجية، كان صحافيا ناجحا، عمل في العديد من الصحف البريطانية الكبرى، يتقاضى راتبا يفوق ما أخذه عندما أصبح عمدة مدينة لندن، ثم نائبا برلمانيا.
وفي خضم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وصف جونسون الاتحاد الأوروبي بأنه “مشروع زعيم النازية، أدولف هتلر”، الذي حاول، على حد تعبيره، “إنشاء دولة أوروبية واحدة”. ولطالما اشتهر جونسون بالإثارة والاستعراض في تدخلاته وعمله السياسي منذ أن انتخب عمدة للعاصمة لندن عام 2008، وكان من بين أهم قراراته منع المشروبات الكحولية في وسائل النقل العام. علاوة على مظهره الملفت للانتباه، ودراجته الهوائية التي طرَح من على صهوتها مشروعا ضخما لتشجيع استعمال الدراجات في لندن، ارتبط باسمه، وجلب نحو 90 ألف شخص يستعملون الدراجة في الذهاب إلى العمل، وقضاء مصالحهم، وكان كثيرا ما يذهب إلى مكتبه على الدراجة الهوائية، حتى أن دراجته سرقت مرات عدة، وكانت ظاهرة سرقة الدراجات من المواضيع التي أولاها جونسون اهتماما خاصا خلال ولايته في لندن.
يحرص جونسون على استدعاء الخطاب القومي في كتاباته وخطابته، حتى ذهب الكثير إلى تسميته بـ”ترامب بريطانيا”، أسوة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبنفس الشعار الترامبي الشهير “أميركا أولا”، يطرح جونسون نفسه أبرز المرشحين لقيادة البلاد في مرحلة ما بعد بريكست، لتأتي تصريحات السفير الأميركي بلندن وودي جونسون مؤخرا حول أن بريطانيا بحاجة إلى قيادة جديدة في المرحلة القادمة، لترفع في أسهم رئيس الدبلوماسية البريطانية السابق الذي يرفض المهن الشاقة، لكنه يرى سنة 2019 حبلى بالمتغيرات.
داخل اللعبة وخارجها
يحرص جونسون، عادة، على تفادي الهجوم المباشر على منافسيه، وكثيرا ما يلجأ إلى كتابة أعمدة صحافية تحمل مواقفه المبطّنة من المستجدات والسجال السياسي. يحتاج أعضاء حزب المحافظين إلى صياغة قصة جديدة تتمثل في التجديد القومي بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
قد يتم انتخاب جونسون باعتباره مؤيدا لقضية بريكست، لكنه سيخطو أولى خطواته بعد انتخابه نحو المركزية، محاولا بذلك أن يصلح روابطه مع مؤيدي البقاء الليبراليين في حزبه، وهو ما طرحه على أمبر رود، وزيرة الداخلية السابقة، وعرض عليها أن تصبح نائبا له في حال فوزه.
فترة عمل جونسون على رأس الدبلوماسية البريطانية توصف بأنها اتسمت، طيلة الوقت، بانعدام الجدية واتباع نهج متعمد مغرق في التفاصيل. وقد لبس الرجل خلالها قناعا هزليا أمتع من خلاله جمهوره المحلي، لكنه حيّر وأغضب بقية العالم
ورغم الانشقاقات والتجاذبات في صفوف المحافظين، إلا أن الفوز بالانتخابات القادمة يظل هدفا مشتركا لمختلف التيارات داخل الحزب، إذ يبدو زعيم العمال جيريمي كوربين وحده قادرا على التغيير في ظل غياب قيادة محافظة تعدل الأوتار.
سيصوت حزب المحافظين بناء على فكرتين أساسيتين: من هو الأكثر انسجاما مع وجهات نظري؟ ومن سيحافظ على مقعدي الانتخابي؟ وإذا اعتبر الكثيرون أن جونسون هو الجواب، فإن فرصة فوزه بالانتخابات تبقى مرتفعة. لكن هذا لا يعني التنبؤ بأن جونسون سيصبح رئيسا للوزراء، ولكن من المتوقع أن يكون هذا العام عاما حاسما بالنسبة إليه، حيث استطاع من خلال قوة شخصيته أن يبقي نفسه داخل اللعبة.
كل سباق قيادة في حزب المحافظين، تميز تقريبا، بإسقاط أبرز المرشحين، ومن الغريب أن تلك المحاولات كانت تلقى نجاحا. ويعتقد العديد من أعضاء البرلمان أنهم بحاجة إلى وجه جديد، لذلك دخل العديد من المرشحين المؤيدين لبريكست إلى دائرة السباق المزدحمة، التي قد يكون الفارق بين الإقصاء أو التقدم فيها هو هامش من 8 إلى 10 أصوات.
وفي ظل تصويت المحافظين بأغلبية ساحقة مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن يلاقي جونسون دعما من ناخبيه، حيث أن أولئك الذين صوتوا لصالح المغادرة لا يريدون أن يقال لهم إنهم أخطأوا بل يريدون أن يثبتوا أنهم على حق، لذلك هم يجدون أن جونسون هو الرجل القادر على إبلاغ ذلك.
وينتظر المحافظون من قائدهم الجديد تحريك العديد من الملفات العالقة على غرار قطاع الصحة الذي يعتبر أكثر المواضيع إثارة للجدل في المملكة، لكن إدارة ملف بريكست والخروج بأفضل صفقة يبقيان أولوية في المرحلة الراهنة.
لقد التقط جونسون، المعروف بانتهازيته السياسية، الإشارات في خضم الجدال بشأن بريكست حينما عارض التعويضات المالية “المشطة” التي ستدفعها بريطانيا لقاء الطلاق، مشيرا إلى أنه من الأجدى ضخ هذه الأموال في القطاع الصحي الذي وصفه بالمتهالك، حيث الانتخابات القادمة ستكون الأصعب بالنسبة لحزب المحافظين في محاولة منهم للفوز بها، إنهم بحاجة إلى كسب مقاعد ليحكموا وحدهم في بلد يصرخ من أجل التغيير، من أجل الاستثمار في الخدمات العامة، من أجل سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن الأمور سوف تتحسن.
الأيام القادمة ومستقبل جونسون
حتى اليوم، فشلت محاولة ماي بتصوير وزيرها السابق على أنه معادٍ لتنوع المجتمع البريطاني بعد أن كادت تصريحاته بخصوص الحجاب تعصف بمستقبله السياسي وتدفع به نحو الزاوية، إلا أن السياسي تمكن من تحويل وجهة النقاش بشأن الحجاب والحريات إلى الكتابة حول برنامجه الصحي لبريطانيا الغد.
تجاهل جونسون بكل برودة أعصاب دعوات غريمته رئيسة الوزراء إلى توضيح موقفه بشأن الحجاب وواصل الكتابة على أعمدة صحيفة التايمز محاولا الإجابة عن تساؤلات البريطانيين بشأن تداعيات بريكست على حياتهم ومستقبل أبنائهم، وهو أكثر العارفين بحساسية المرفق الصحي لدى عموم البريطانيين. وبتناوله للوضع الصحي في بريطانيا يعود جونسون إلى تبني خطابات مؤيدي بقاء البلاد ضمن الاتحاد الأوروبي داخل حزبه، في محاولة لاستقطابهم وضمّهم إلى معسكره المتشدد.
أقيل جونسون من صحيفة التايمز بسبب عدم الدقة في نقل التصريحات، كما فصل من منصب المتحدث باسم حزب المحافظين عام 2004، بسبب “كذبه” بشأن علاقاته النسائية، لكن هذه المصاعب كلها لم تقض على مستقبله السياسي، مثلما فعلت مع غيره.
وهكذا استطاع أن يواجه العواصف التي اعترضت طريقه ويتغلب عليها بفضل بلاغته الكبيرة وقدرته على اللعب بالكلمات وتغيير المواقف الحرجة والصعبة لصالحه في كل مرة. من كتابته لقصيدة قال فيها إن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يمارس الجنس مع عنزة”، إلى تشبيه المرشحة الديمقراطية للانتخابات الأميركية هيلاري كلينتون بـ”الممرضة السادية”، صنع جونسون اسما له حول العالم وداخل بريطانيا.
وفاز عمدة لندن السابق بجائزة قيمتها ألف جنيه إسترليني عن قصيدته التي شبّهت بـ”الوقحة” عن الرئيس التركي. وجاءت قصيدة جونسون كمشاركة في مسابقة أعدتها مجلة بريطانيا حين كان محررا سابقا فيها، ردا على محاكمة أردوغان للشاعر الألماني الذي كتب قصيدة جنسية ضده كذلك.
حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا يوفر فيها جونسون أي وسيلة لتشويه صورة الاتحاد، واصفا إياه بأنه "مشروع زعيم النازية، أدولف هتلر"، الذي حاول، على حد تعبيره، "إنشاء دولة أوروبية واحدة"
تصريحاته المثيرة وميله إلى النكتة والانتقاد الحاد أمور جعلت الكثيرين يفاجأون بتوليه وزارة الخارجية. فكان من أبرز تلك التصريحات المحرجة التي أطلقها أن “أصول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الكينية، جعلته يكره تراث بريطانيا وتاريخها”. ووجه جونسون انتقادات لاذعة لأوباما بعد دعوته البريطانيين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وقال إن الولايات المتحدة نفسها لا تقبل بالقيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، فلماذا تريدنا أن نقبل بذلك؟
خلال حياته السياسية عرف عن جونسون أفكاره اليمينية المتطرفة وتصريحاته الغريبة المثيرة للسخرية، كمظهره وتسريحة شعره الغريبة. ففي إحدى الحملات الانتخابية لحزبه “المحافظين” لم يجد جونسون حرجا في أن يخاطب جمعا من مؤيدي حزبه بالقول “إذا اخترتم مرشحا من حزب المحافظين، فإن زوجاتكم سيجرين عمليات تكبير لصدورهن وستزداد حظوظهن بامتلاك سيارة (بي.أم.دبليو، أم 3)”، ثم فاجأ الجميع في عام 2012 عندما ظهر في شريط فيديو خلال دورة الألعاب الأولمبية في لندن عالقا في عربة نقل بالكابلات فوق حشد من الناس.
لم يكن متوقعا أن يصوّت البريطانيون لصالح بركسيت في 2016، لكنهم فعلوا، فهل تفاجئ بريطانيا العالم برئيس وزراء نسخة من ترامب؟ خاصة وأن المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من الإثارة وتتطلب زعيماً يحمل ملامحها، فالمصادر الحكومية البريطانية تؤكد أن ماي اضطرّت إلى سحب التصويت على اتفاق بريكست، في ديسمبر الماضي؛ بعد أن خشيت رفضه بأغلبية كبيرة، ولكن لا أحد يعلم ما الذي سوف تقوله نتائج التصويت الأسبوع المقبل، نتائج سترسم معها مستقبل بوريس جونسون ذاته.