بورقيبة وعبدالناصر وفلسطين بعد 60 عاما من خطاب أريحا

ما قام به السادات من عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل 1979 لم يكن سوى ترجمة لما كان سيقوم به عبدالناصر لو امتدت به الحياة وتوفرت له نفس الظروف.
الخميس 2025/05/01
الفلسطينيون والعرب أضاعوا اقتناص مقترح بورقيبة

صادف الكشف عن تسجيل لما ورد على لسان الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر خلال لقائه الزعيم الليبي معمر القذافي في الرابع من أغسطس 1970 قراءة واقعية للصراع العربي – الإسرائيلي، مع الذكرى الستين للحملة الشعواء التي تعرض لها الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة من قبل قادة المشرق العربي بعد إعلانه عن رؤيته لحل القضية الفلسطينية.

في الثالث من مارس 1965 خاطب الرئيس التونسي الفلسطينيين في أريحا قبل أن تبسط إسرائيل نفوذها على الضفة الغربية والقدس الشرقية وتحتل سيناء المصرية والجولان السوري، وتلحق بالعرب هزيمة الخامس من يونيو 1967.

وقال “ما أريد أن ألفت إليه نظركم، أصحاب الحق السليب، أنه يجب أن تكونوا في الصف الأول من هذه الواجهة التي تعمل على حماية فلسطين.. تجربتي الشخصية في كفاحي الطويل أكدت لي أن العاطفة المشبوهة والأحاسيس الوطنية المتقدة، التي أرى نموذجًا حيًا منها على وجوهكم، لا تكفي لتحقيق الانتصار على الاستعمار.”

وأضاف “إذا كان من حق الشخص العادي أن يتحمس للهدف النهائي ويتخذ منه قمرًا يعينه على السير إلى الأمام، فإن على الزعيم المسؤول عن المعركة أن يتثبت من الطريق الموصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه المنعرجات التي قد يضطر إلى اتباعها لاجتياز العراقيل والصعوبات. المنعرج لا ينتبه إليه في غالب الأحيان من تسيطر عليهم العواطف، لأن العاطفة تأبى إلا أن تسير في خط مستقيم، لكن عندما يدرك الزعيم أن الخط المستقيم لا يمكن أن يوصل إلى الغاية، فإنه يضطر لاتباع المنعرج، فيبدو في الظاهر وكأنه ترك الهدف جانبًا، الأمر الذي يثير ضجة الأتباع.”

ما قاله بورقيبة عام 1965 تحدث به عبدالناصر بعد خمس سنوات. الفرق أن بورقيبة تحدث قبل الهزيمة وتجرأ على إعلان موقفه بشكل واضح

سعى الرئيس التونسي إلى إقناع الجماهير الفلسطينية بمبدأ سياسة المرحلة التي اعتمدها في قيادته معركة تحرير تونس، معتبرًا أن الانتصار “لا يمكن أن يتم إذا تمسكنا بسياسة ‘الكل أو لا شيء’ التي أوصلتنا في فلسطين إلى هذه الحالة وأصابتنا بهذه الهزائم، خصوصًا وقد أبينا إلا أن نتجاهل وجود اليهود، وإلا أن ننكر التطورات والمعطيات الجديدة، وإلا أن نستهين بما حققه اليهود ونبالغ في تقدير قوة العرب وكفاءة جيوشهم.”

وتوقف بورقيبة عند ما كان أغلب الزعماء العرب يرفضون الاعتراف به، فقال “أبى العرب الحل المنقوص ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض، ثم أصابهم الندم وأخذوا يرددون: ليتنا قبلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها. ولو رفضنا في تونس عام 1954 الحكم الذاتي باعتباره حلًا منقوصًا، لبقيت البلاد التونسية إلى يومنا هذا تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة تحكمها باريس.”

كانت كلمات بورقيبة كافية لتجعله عرضة لحملة سياسية وإعلامية شرسة بلغت حد التخوين. ففي 23 أبريل 1965، أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية بيانًا شجبت فيه تصريحات بورقيبة، بينما دعا الأمين العام للجامعة العربية أحمد الشقيري مجلس الجامعة لدورة استثنائية لإقرار فصل تونس من الجامعة، ومجلس الدفاع المشترك، وجميع الهيئات واللجان المتفرعة عنها.

وفي الـ27 من نفس الشهر ناقش مجلس الأمة المصري تصريحات بورقيبة، وطالب عدد كبير من الأعضاء بطرد السفير التونسي من مصر. وفي اليوم التالي، خرجت تظاهرات في القاهرة استنكارًا لتصريحات الرئيس بورقيبة، وحاصرت سفارة تونس وحاولت إحراق منزل السفير التونسي.

كان المتظاهرون يرفعون شعارات: “اسكت اسكت يا غدار.. بعت شعبك بالدولار.. اسكت اسكت يا عميل.. لا تقسيم ولا تدويل.”

حضر السفير التونسي إلى القاهرة حاملًا معه رسالة خطية من بورقيبة، لكن عبدالناصر رفض استقباله وتسلمها، وفق ما أعلنته صحيفة “الأخبار” آنذاك.

بعد الظهر اتصل السفير بالأمين المساعد للجامعة العربية سيد نوفل هاتفيا، وأبلغه أن حكومته قررت سحبه، وأنه لهذا يعتذر عن عدم حضور اجتماع ممثلي الملوك والرؤساء العرب، الذي دعا إليه أحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، في إطار حملة التجييش ضد الرئيس التونسي، معتبرًا أن تصريحات بورقيبة “تحلل كامل من الهدف المقدس الذي اجتمعت عليه الأمة العربية بتحرير فلسطين، وأقرته قرارات الدول العربية وميثاق الجامعة العربية، وأنها انطوت على تجاهل كامل لمشيئة الشعب الفلسطيني، الذي هو صاحب الحق الأول في وطنه وفي تقرير مصيره،” وداعيًا إلى “اتخاذ إجراءات حاسمة ضد بورقيبة لأن كارثة فلسطين وهزيمة 1948 كان من أهم أسبابها خيانة عدد من المسؤولين العرب.”

لولا بورقيبة لانتهى الأمر
لولا بورقيبة لانتهى الأمر

بعد يومين نشرت تونس نص رسالة بورقيبة التي رفض عبدالناصر أن يتسلمها، والتي قال فيها “إن واجب العروبة يملي علي أن أخاطبكم في قضية عزيزة علينا جميعًا، كثيرًا ما تبادلنا الرأي في شأنها، وكان يخيل إلي أننا متفقان بخصوص النقاط الجوهرية منها.”

وأضاف “إن ما توطد بيننا من روابط الأخوة والتفاهم أثناء مقابلاتنا العديدة، وبخاصة خلال زيارتي الأخيرة إلى الجمهورية العربية المتحدة، ليجعلني أعتقد أن الخلافات مهما تكن يمكن التغلب عليها بالمنطق السليم والنية الطاهرة والعزيمة الصادقة.”

أكد بورقيبة أنه لم يستغرب “ما ذهبت إليه بعض الصحف في بعض الأقطار العربية من استنكار وثلب، بقدر ما استغربت ما بدر من بعض الأوساط المسؤولة في القاهرة بخصوص الموقف الذي وقفته والتصريحات التي فهت بها، والحال أننا متفقان في الجوهر كما تبين لي ذلك من خلال محادثاتنا الكثيرة عن قضية فلسطين.”

وختم قائلًا “أنتم أعلم الناس بأن المشكل لا يتعلق بالهدف الذي لا يمكن أن يتطرق إليه خلاف أو نزاع، والذي هو تمكين إخواننا الفلسطينيين من استرجاع وطنهم المغصوب. وإنما الذي أشكل فهمه على بعض الأوساط أو أسيء فهمه عمدًا في بعض الدوائر إنما يتعلق بكيفية الوصول إلى ذلك الهدف، فخلطوا عمدًا أو غفلة بين الغاية والوسيلة، وحملوا الاجتهاد في استنباط الوسائل محمل التخلي عن الهدف أو التنكر له. ولئن كان ما قلته يغاير ما ألفه الكثيرون من جعجعة لفظية لا طائل من ورائها، فإن المسؤولين العرب عامة والمسؤولين المصريين بوجه أخص على علم بحقائق الأمور. واعتقادي أن الشخصيات الرسمية التي تسرعت إلى إبداء الاستنكار إنما فعلت ذلك بغية مرضاة حكومة الجمهورية العربية المتحدة، وذلك لأسباب داخلية لا تغرب عن أحد. لذا اعتبر من المفيد أن أخاطبكم أنتم مباشرة، وسأتوخى نفس الصراحة التي عهدتموها سواء في مباحثاتنا الخاصة أو في الخطب التي صدعت بها على رؤوس الملأ في شتى المناسبات.”

وتابع بورقيبة “نحن جميعًا متفقون على أنه من المستحيل في الظروف الراهنة أن تشن الدول العربية حربًا على إسرائيل لتحرير فلسطين وإرجاعها إلى أهلها وأصحابها. وأذكركم في هذا الصدد بمداولات اجتماعي القاهرة والإسكندرية، ولست أعتقد أن في تأكيد ذلك إفشاءً لسر ما. ويتعذر على الدول العربية القيام بأي عملية هجومية في الوقت الحاضر لسببين: أولهما أنها غير متأهبة لمواجهة الحرب ولا قابلة لمبدأ تسلل عصابات المقاومين من أبناء فلسطين، والثاني أن الوضع الدولي يحول أيضًا دون ذلك لإجماع الشقين الغربي والشرقي في الأمم المتحدة على المحافظة على السلم واستعدادهما لردع أي محاولة تهدف إلى تغيير الوضع الحالي بالعنف في هذه المنطقة.”

وأردف “لقد قلتم لي بلسانكم خلال محادثة لنا عن ذلك أنكم أثرتم موجة من الغضب لما صرّحتم أثناء مؤتمر باندونغ بأن ما عرضته الأمم المتحدة سنة 1948 يمكن اعتباره حلًا مرضيًا، فأجبتكم بأني مستعد لاتخاذ مواقف جريئة في هذا الصدد، وأضفت مازحًا: وآمل ألا تهاجمني عندئذ أبواق إذاعة القاهرة وصوت العرب. إن الخطة التي اقترحتها في أريحا والقدس ولبنان، ثم شرحتها ووضحتها في تصريحات لاحقة، لا تختلف في الجوهر عن الموقف الذي أعلنتم عنه سنة 1955. وقد تقدمت بهذه الخطة نفسها في الخطاب الذي ألقيته في الاجتماع الأول لرؤساء الدول العربية بالقاهرة في يناير 1964. وهي خطة لا تهدف إلى الاستكانة وقبول أنصاف الحلول كما يظن البعض، بل تهدف إلى تحريك القضية بعد أن تجمدت وتعفنت وكاد الرأي العام العالمي ينساها، وأجمع أصدقاؤنا من العالم الثالث من الدول غير المنحازة على اعتبارها من القضايا المحفوظة.”

سيكون من الشجاعة الاستثنائية لو يبادر المهندس عبدالحميد عبدالناصر ببث تسجيل لقاءات والده مع بورقيبة قبل سفره إلى أريحا، لاسيما وأن كل اجتماعات ومناقشات واستقبالات الزعيم المصري كانت تُسجل ويتم الاحتفال بها كجزء من تراث الدولة، بمعنى أن تسجيل لقاء ناصر مع القذافي لم يكن من باب الاستثناء وإنما هو جزء من تقديم عام.

لحظة تاريخية

وإذا كان عبدالناصر قد هاجم بورقيبة واتهمه بالعمالة والجنون والهوس، فإن بورقيبة أكد أنه لم يتحدث بما تحدث به للفلسطينيين إلا بعد اتفاق مع عبدالناصر. لكن طبيعة بعض الزعماء أنهم يقولون شيئًا ويُسرّون عكس ما يعلنون، وهم ضعفاء أمام الرأي العام بحيث يخافون على شعبيتهم ويتعاملون وفق شعار “قل للشعب ما يحب ولو كذبًا،” انطلاقًا من رغبة في كسب ود الجموع التي تستميلها العاطفة وينفرها العقل.

في الأول من مايو 1965، ألقى بورقيبة كلمة في اجتماع المجلس القومي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، قال فيها “الأيام بيننا والدهر كفيل بأن يظهر المحق من المبطل والمخطئ من المصيب.” ورأى أن التاريخ سيثبت أن زعيمًا عربيًا أراد أن يبعث القضية من مرقدها وأن ينقذها من التعفن، لكن غباوة وغطرسة بعض المسؤولين أغلقتا هذا الباب.

وسيقول الفلسطينيون ذات يوم: لو اتبعنا هذه الطريقة لكان من الممكن أن تحقق لنا ما حققت لغيرنا،” وفق تقديره، معربًا عن ألمه لما يمكن أن يكون عليه “مصير الفلسطينيين الواثقين بعبدالناصر باعتباره مسؤولًا عن أكبر دولة عربية تملك الطائرات والدبابات وتتحدى الأميركيين، وباعتباره انتصر على بريطانيا وفرنسا وعلى الدنيا كلها، لكن ما باله لم ينتصر حتى الآن على إسرائيل؟ لا ريب أنه سيقول: لولا بورقيبة لانتهى الأمر.”

ما قاله بورقيبة في 1965 هو الذي تحدث به عبدالناصر بعد خمس سنوات. الفرق أن بورقيبة تحدث قبل الهزيمة، وكان يستند إلى قرار تقسيم الأراضي المحتلة في العام 1948، وتجرأ على إعلان موقفه وتقديم رؤيته بشكل واضح وفي ساحة عامة، وكان مستعدًا لمواجهة طوفان التخوين والتكفير والتقريع الذي تعرض له من قبل من كانوا يركبون صهوة الوهم ويلبسون رداء الشعبوية ويزعمون القدرة على تغيير العالم.

وما قام به السادات من عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل في العام 1979 لم يكن سوى ترجمة لما كان سيقوم به عبدالناصر لو امتدت به الحياة وتوفرت له نفس الظروف. بينما كان القذافي سيواجه تلك اللحظة بنفس ما حدث من تأسيس جبهة الصمود والتصدي التي كانت تضم سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن الديمقراطي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الأطراف ذاتها التي ذكرها الزعيم المصري في التسجيل الصادر قبل أيام.

في الخطاب الذي ألقاه بورقيبة في أريحا، خاطب الفلسطينيين بأنه عرض عليهم رؤيته حتى “لا نبقى سبعة عشر سنة أخرى أو عشرين سنة نردد ‘الوطن السليب.. الوطن السليب..’ دون جدوى. إننا إذا اقتصرنا على العاطفة سنظل على هذه الحال مئات السنين.”

بعد 17 عامًا، كانت تونس في العاشر من أغسطس 1982 تفتح ذراعيها لاستقبال منظمة التحرير الفلسطينية التي اضطرت إلى مغادرة بيروت بسبب الحصار الإسرائيلي.

6