"بورتريه لمدينة صغيرة" سيرة الكردي من عامودا إلى العالم

كاميران حرسان يفتح سيرته لتسليط الضوء على سوريا والشخصيات المهمشة.
الأربعاء 2024/09/25
كاتب يفتح ماضيه ليسلط الأضواء على مفاهيم عميقة

تغيرت طرق كتابة السير الذاتية، وباتت غير مقتصرة بالمرة على الذات منساقة خلف نرجسية كاتبها، وأحادية زاوية النظر. إذ بات هذا الجنس الأدبي مساحة لتقاطع الذات التي تروي مع الآخرين والتاريخ، وهذا ما نجده في سيرة الكاتب السوري كاميران حرسان، الذي جعل سيرته الذاتية مجالا لشخصيات عديدة وأحداث متداخلة ما حولها إلى وثيقة تاريخية حية.

السيرة الذاتية أمكنة وأزمنة متباينة، عديدة المداخل، متفرعة الشعاب، يدون ملامحها صاحبها الغائر في ذاكرته، يقسمها إلى أبواب وفواصل حتى يبلغ بأسفارها مفرقا تتشعب خلفه الطرق التي تفضي إلى شبكة متناغمة من الأنواع والأجناس الأدبية للسيرة المتداولة حاليا، كالتي تخيلها المبدعون والأكاديميون وصنفوها ونظروا لها.

عبر القراءات العديدة والمتنوعة لنتاجات السير الذاتية التي كتبها روائيون وشعراء ورياضيون وسياسيون وأكاديميون وفلاسفة، لا تشد الكثير من هذه الأعمال القارئ إلى منعرجات الانبهار لأسباب عدة. فبعضها يغرق في النرجسية، حيث تدلق الأنانية والعظمة المفرطة بين السطور، بينما يشل الحياء بعض الكتاب عن تقديم صورة حقيقية عن ماضيهم. آخرون يتحايلون على الماضي بإضافة أحداث متخيلة، يلفقونها برعونة إلى أحداث لم تقع، متسللين بذلك بعيدا عن حقيقة ما عاشوه.

 أما كاميران حرسان فقد أفلح في “بورتريه لمدينة صغيرة”، الصادر مؤخرا عن منشورات رامينا في لندن، في لملمة شتات اتجاهات السيرة بأنواعها: من يوميات ومذكرات واعترافات، بأسلوب روائي سلس فيه الكثير من التشويق. التشويق الذي تتخفى فيه خيوط الحداثة والابتكار، إذ أضاف جنسا آخر إلى السيرة تتجلى في معالمه سير آخرين ضمن سيرته.

فقد لاحت بين سطور حكاياته المختلفة شخصيات مثل: ليلى قاهرة الصبيان، حمادي عندليب الصباح العازف على أوتار المذبة، عزو بخيمته المرقعة ونهايته المفجعة، داوود الحارس الهداف، وبوزان بأفكاره التي تحلق خارج صندوق وعادات المجتمع السائدة… وغيرهم. هذه الشخصيات تشكل لوحات عن ذاكرة أشخاص ما كانت لتدون سيرهم، لكن ماذا لو كتب هؤلاء عن أنفسهم؟ هل كانوا سينصفون الأحداث التي مرت بهم بالطريقة التي شيد صرحها كاميران حرسان لبنة لبنة، مقتطعة من تراب ذاكرته؟

ه

لم يبال كاميران بحصر قصصه داخل مزرعة لأحد معين، متنقلا بسرده بين مكان وآخر. وهو الذي قد حلق بأجنحة لغته الدافئة والمسلية خارج النمطية السائدة في علم السيرة حين كتبها بأسلوبه الروائي، الأمر الذي جعلها تحفة فنية تشابكت في سجادتها نقوش بديعة ذات عقد كثيرة لسرد متقن.

إذ إن الرتابة في الوصف والانتظام المحشوة في القوالب الأدبية الجاهزة من شأنها أن تصيب القارئ بالملل. فكاميران حرسان يغير الموازين بتقسيم لوحات سيرته إلى أبواب شتى يلج من خلالها أبطاله إلى حكاياته. لم يكن بطلها الوحيد وعازف أوتارها المتفرد، وهو الذي اقتطف من كل شجرة ثمرة، جامعا إياها في سلة من سلال الخيال، قبل أن يوزعها حبة حبة علينا بأسلوب قصصي فريد. أضحكتنا لوحاته بداية ثم أبكتنا.

رسم كاميران حرسان لوحاته الأولى بألوان مبهجة، كاشفا عن ملامح عالمه البديع في عامودا، وعن حياة أصحابه وجيرانه وعائلته بتفاصيل صغيرة تشهد على ما يعتمل في قلب المجتمع وفكره. لوحة الطفولة المعذبة على جداريته الأدبية حاضرة كشاهد عيان على شقاء أبطالها وشقاوتهم وخيباتهم في لحظات الطيش التي تعبر مسالكها مسالكهم.

تأتي السيرة الذاتية معجونة بذكريات طفولية، ميادينها ساحات ومقابر ومعسكرات وحقول. سيرة للطفل المغامر الذي لم يتوان عن المضي قدما في تجارب قصيرة وتجارة غير مربحة وخطّ سطورها بأسلوب أدبي ساخر. “كنا أطفالا لا نتراكض خلف السفاسف والأخبار الرخيصة بل نوكل جل اهتمامنا إلى ما كان يبهرنا”.

الصورة الشعرية في هذا المقطع تتجسد من خلال الاختلاف بين عالم الطفولة البريئة والعفوية في مجتمعاتنا، وبين عالم الكبار الذي يهتم بالأمور التافهة والأخبار غير المهمة، تلك التي لا تحمل قيما جوهرية أو جمالا.

ما يميز “بورتريه لمدينة صغيرة” عن غيرها هو لوحة الحيوان. إذ إن لهذه الكائنات في سيرته مكانة لها شأن ودلالة محملة بالرمزية. عنصر استخدمه حرسان لتوصيل رسائل أعمق من خلال الرمز والاستعارة. هذه الرموز مرتبطة بالمكان الذي تجري  في جنباته وقائع السيرة وأحداثها، وتداخل عالم الحيوان مع عالمه عبر استعارات يستجلبها من سلوكيات الحيوان ذاته.

السيرة الذاتية تأتي معجونة بذكريات طفولية ميادينها ساحات ومقابر ومعسكرات وحقول شمال سوريا وصولا إلى المهجر

يسلط الكاتب الأضواء على مفاهيم عميقة تتجلى سماتها في محاولة الأديب تصوير القسوة في الطبيعة، على غرار القط “لاغي” الذي بترت ساقه الأمامية، فأمسى عنيفا مشاكسا يفتك بضحاياه من الحيوانات الأخرى، حتى فلذات كبده لم تنج من براثنه.

هذه الأمور تأخذنا إلى منحى مغاير، تتجلى فيه آثار السياسة ورواسبها الاجتماعية. إذ لدى كاميران حرسان لوحات متبددة في داخل تفاصيل البورتريه، حيث جسد من خلالها ملامح الوضع الاجتماعي والسياسي وتناقضاته الكثيرة والمتعددة.

هذا ما عاشه كاميران شخصيا، حيث تم اعتقاله أسابيع أثرت تأثيرا عميقا على وجدانه، فانعكست صورته في مرآة “بورتريه لمدينة صغيرة” لتظهر فيها هيئات أناس معذبين وقصصهم الأليمة في المعتقل.

قدم كاميران نقدا اجتماعيا من خلال تسليط الضوء على الفساد والظلم، مع رؤى جديدة حول مدينته المشتتة، الطامحة دوما إلى بلوغ الجبال التي فصلها سايكس وبيكو عن حضنها السهل.

أما اللوحة الأكثر حزنا وأسى، فقد كانت لوحة حياته بعد وفاة والدته واصطدامه بمشيئة أبيه وهو صغير، وذكرياتها الموجعة التي خلفت ندوبا في ذاكرته ووجدانه. لكن الأمور ما لبثت أن استقامت بعدما أوصلته الأقدار إلى بيت جده عم أبيه، لتبلغ حياته السعادة بين أحضان جد محب وجدة رؤوم، فصلته لاحقا عنهما أحلام الهجرة نحو السويد، من شمال سوري مزيف إلى شمال حقيقي وجد نفسه فيه عالقا بين اللغات ومباهجها. استمد من نسغ خيالها خياله، ملأ به دفاتر أسطره، ناثرا لوعة وسحرا لا يسع القارئ إلا أن يفتتن بجمال كلماته.

12