بوتين، نهاية بطل قومي آخر

البطل القومي عندما يفشل في قراءة الأرقام، فإنه يعد لكارثة، ويذهب ببلده إلى الهاوية مفتوح العينين.
الأحد 2022/04/10
خسائر عسكرية واقتصادية فادحة

ما الذي يجعل “الأبطال القوميين” يجلبون لبلدانهم الهزائم في نهاية المطاف؟

جمال عبدالناصر واحد من أبرز الأسماء في عالمنا العربي. وصدام حسين بطل قومي آخر. فيدل كاسترو، هوغو تشافيز، هو تشي منه، ماو تسي تونغ، كمال أتاتورك، الحبيب بورقيبة، أوتو فون بيسمارك، جوزيف ستالين، نيكولاي تشاوتشيسكو، جوزيف بروز تيتو، أدولف هتلر، فرانثيسكو فرانكو، بينيتو موسوليني، يوويري موسيفيني، روبرت موغابي، كل هؤلاء كانوا بطريقة أو أخرى أبطالا قوميين، وأورثوا بلدانهم إما هزائم عسكرية، أو اضطرابات اجتماعية، أو هزائم اقتصادية، أو أزمات سياسية خلّفت أنظمة يعوزها الاستقرار.

لا شيء يجمع بين كل هؤلاء، إلا الفشل الضخم بعد نجاح ضخم أيضا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدخل هذه القائمة الآن، كبطل قومي، أنقذ روسيا من ركام انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أنه أغرقها في ركام الحرب ضد أوكرانيا.

مشاعر العظمة تورث العمى عن الحقائق. هذا ربما كان واحدا من أهم الأسباب. فحيثما تبدأ بجني ثمار النجاح يبدأ التعالي على ما يتغير من الحقائق، حتى لا تعود رؤيتها ممكنة.

الآن يتعلم الرئيس بوتين أن الأوكرانيين أمة تستحق الاحترام. وها هي تقاتل بشراسة من أجل تطهير أراضيها من الاحتلال.

كان يعتقد أن أوكرانيا لا تعني شيئا، لا لغة ولا ثقافة، ولا كيانا يستحق اعتباره دولة.

العزلة التي يفرضها بوتين على نفسه، و"التباعد الاجتماعي" الذي يفرضه حتى في العلاقة مع كبار وزرائه مثل لافروف وشويغو، يدلّان على أنه خائف وهو في عرينه، ويحكم "عن بعد" ليس خوفا من كورونا، ولكن خوفا من أن يرتد فشله عليه

أوكرانيا تثبت الآن أنها دولة ونصف، وأن نظامها السياسي أكثر متانة واستقرارا، وسط كل هذه الحرب، من النظام الروسي نفسه.

العزلة التي يفرضها بوتين على نفسه، و”التباعد الاجتماعي” الذي يفرضه حتى في العلاقة مع كبار وزرائه مثل سيرغي لافروف وسيرغي شويغو، يدلان على أنه خائف وهو في عرينه، ويحكم “عن بعد” ليس خوفا من كورونا، ولكن خوفا من أن يرتد فشله عليه.

هناك مبررات تزداد الآن للمطالبة بمحاكمته كمجرم حرب، بعد أن اكتشفت جثث العشرات من المدنيين الأوكرانيين ممن تم إطلاق النار عليهم من دون مبرر في البلدات التي احتلها جيشه.

ماريوبول شاهد صارخ بمفرده، ليس بسبب الدمار الذي أدى إلى هدم 90 في المئة من مبانيها، وإنما بسبب محاصرة نحو 160 ألف ممن لم يجدوا إلا الملاجئ والأقبية ومحطات القطارات تحت الأرض لكي يلوذوا بها من القصف الذي لا تكفي كلمة “وحشي” لوصفه.

بوتين أظهر أنه واحد من أجهل المحيطين به بشؤون الاقتصاد عندما أصدر قراره بشأن مبيعات النفط والغاز بالروبل، وحدد موعدا، وأعقبه بإنذار، ثم حار كيف ينفذه. لقد كان يعتزم أن يقطع الغاز. ربما وضع يده على المفتاح، فتمكن أحد ممن بقيت له القدرة على القول “لا” أن يمنعه.

الانفصال عن الواقع سبب آخر. تحل الغطرسة محل التفكير الهادئ المجرد عن الأهواء. وعندما يتم إطلاق النار على الواقع، فسرعان ما يرد الواقع بكل ما لديه من مدافع.

طلبت أوروبا تفاصيل مكتوبة حول الإنذار فاتضح أنه يجب فتح حساب بالروبل في جوار الحساب باليورو أو الدولار لدى البنك نفسه، فيتم التحويل من هذا إلى ذاك. وهذا لا يعني على الإطلاق أنه تم شراء الغاز بالروبل. العلاقة بقيت كما هي: ادفع باليورو أو الدولار، ويقوم البنك بتحويله إلى روبل، أو إلى أي عملة تشاء، حتى ولو اشتريت بها تومانا إيرانيا، الذي هو بمنزلة الفجل بين العملات.

الغطرسة هي السبب.

قصة التجارة بالعملات المحلية بين الدول مشروع غبي آخر. في الواقع: شديد الغباء، من عدة نواح.

الغرب لا يصنع أبطالا قوميين إلا لكي يُطيح بهم، إذا لم يُطيحوا هم بأنفسهم

التبادلات التجارية بالعملات المحلية ما لم تستند إلى “عملة مرجعية” فإنها ستكون في النهاية مشروع إفلاس. خذ على سبيل المثال: تبيع بضاعة بمليار روبل، وتتلقى ثمنها 100 مليار تومان. تسأل نفسك: “إي، وبعدين؟”. عملتان تضطربان بعوامل التضخم، سرعان ما تفقدان الكثير من قيمتهما ما لم تستندا إلى “أساس مرجعي” يحافظ على قيمة التبادل التجاري.

الصين والهند هما أكبر الاقتصادات التي تراهن عليها روسيا في فكرة تبادل العملات. الأولى يبلغ ناتجها الإجمالي 18 تريليون دولار. والثانية 2.6 تريليون دولار. وكلاهما لا يوازيان نصف الناتج الإجمالي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما أن ثلاثة أرباع التجارة الصينية والهندية تقوم على السوق الغربي الذي يدفع لقاء ما يحصل عليه من بضائع وخدمات ومواد أولية بالدولار، لأنها هي “العملة المرجعية” الأولى في جوار عملات مرجعية أخرى أقل وزنا مثل اليورو الأوروبي والين الياباني. في النهاية، فإن تدوير العملات المحلية لا بد وأن ينتهي إلى يورو أو دولار لكي تعرف قيمتها.

كل باقي العملات مجرد ورق، ما لم يكن هناك ما يعادلها من الذهب أو احتياطات العملات المرجعية الأخرى.

لا يعني ذلك أن الدولار لا يمكن تحديه. الأمر ممكن. ولكن بشرطين على الأقل: ألا تكون تجارتك الرئيسية مع الدولار. وأن يكون ناتجك الإجمالي أكبر. أي أن لديك سوقا مستقلا. فلا تعود بحاجة إلى دولار، وتصبح عملتك هي المرجع بالنسبة إلى من تتاجر معهم. وأنت من يحدد للعملات الأخرى قيمتها.

البطل القومي عندما يفشل في قراءة الأرقام، فإنه يعد لكارثة، ويذهب ببلده إلى الهاوية مفتوح العينين.

كل الحقائق الأخرى تقول الشيء نفسه، عندما لا تُقرأ الحقائق الاجتماعية والسياسية بتجرد، وشجاعة ومن دون أهواء.

وعلى الرغم من أن الرئيس بوتين خريج مؤسسة مخابرات، وهو يعتمد عليها لقتل معارضيه، ولكن من الواضح أنها تحت قيادته واحدة من أفشل أجهزة المخابرات في العالم. هذا الجهاز لم يعرف مشاعر الأوكرانيين تجاه بلدهم. لم يعرف حتى مشاعر الناطقين باللغة الروسية تجاه أوكرانيا. ولا أحد قال له: إن نموذج النظام القائم في أوكرانيا أكثر قبولا لهم من النموذج الروسي.

البطولات القومية هي في الواقع تعبير عن أزمة. الأمم المأزومة هي التي تبحث عن أبطال لكي ينقذوها

ثمن هذا الفشل هو خسائر عسكرية جسيمة، وانهيار اقتصادي وشيك، وعزلة دولية، وانعدام ثقة وضياع الاحترام حتى أصبح من الجائز دعوة هذا البطل القومي “مجرم حرب”، وأن يُطلب إلى المحاكمة.

ماريوبول، مدينة يغلب عليها الناطقون بالروسية. وقصفها بتلك الوحشية دليل حقد على الناطقين بالروسية الذين آثروا حمل السلاح دفاعا عن وطنهم: أوكرانيا.

فشل بهذا الحجم لا يحققه إلا “بطل قومي” يضع تصوراته في مرتبة المقدسات، فتنزل على رأسه مثل سقف ينهار.

الغرب لا يصنع أبطالا قوميين إلا لكي يُطيح بهم، إذا لم يُطيحوا هم بأنفسهم. الميزة الفريدة في هذا الغرب، هو أنه لا يبحث عن “أبطال قوميين”، وإنما عن إداريين ناجحين. هذا ما حصل مع جورج واشنطن مؤسس “الأمة الأميركية” التي لا يجمعها شيء أهم من الدستور. وهو أطاح بنفسه، بعد دورتين في الرئاسة، خشية من أن تتعاظم أهميته الشخصية حيال الدستور. أما نيلسون مانديلا، فقد حكم لدورة واحدة واعتزل. وضع الأساس، واكتفى به. ونستون تشرشل مثال آخر. هزمه الناخبون البريطانيون مباشرة بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية. بينما هرب شارل ديغول إلى ألمانيا خوفا من انتفاضة الطلاب ضد نظامه في الستينات.

أما أبطالنا القوميون، فإنهم يُفصلون الدساتير على مقاس أحذيتهم.

البريطانيون، أكثر من أي أمة أخرى ربما، لا يريدون أبطالا، ولا يبحثون في تاريخهم عنهم. الكل في أعينهم سواء، نجحوا أم فشلوا. والكل “يجب أن يقف على الصندوق” لكي يبيع نفسه للناخبين.

البطولات القومية هي في الواقع تعبير عن أزمة. الأمم المأزومة هي التي تبحث عن أبطال لكي ينقذوها. وهذا قد يكون مفيدا لوضع الأساس، ولكن ما بعده، أو ما يترتب عليه من مشاعر العظمة والتعالي على الحقائق المتغيرة شيءٌ ضار تماما، وبوسعه أن يشطب كل ما تحقق من نجاح.

اقرأ أيضاً: روسيا تنتظر ما يقرره الغرب

6