بوادر انهيار فكري تجتاح العالم: أي دور للفلسفة في عقلنة هذه الفوضى 

التفكير الفلسفي قادر على دق إسفين في نعش التشدّد بكل توجهاته لو تحرر من أسر النخبة.
السبت 2018/12/08
فلسفة العالم قديما: أنا أفكر إذن أنا موجود

ترتبط الفلسفة في المجتمعات العربية، وفي غيرها، بالجنون والهذيان، ويصل البعض من رجال الدين المتشددين إلى حد اعتبار بعض التوجهات الفلسفية الفكرية إلحادا، رغم أن الفلسفة خرجت من صلب معاناة الناس ومن عمق أزمات المجتمعات. لكنها اليوم فعل نخبوي بامتياز، تعيش أغلب طبقته على اجترار مبادئ وأفكار فلسفية غابرة، ولدت من رحم أوضاع محددة، تبدو في ظاهرها شبيهة بما يشيعه العالم اليوم إلا أنها في لغتها ونخبويتها وتقليديتها تبقى بعيدة عن تحريك الشارع كما فعلت في الماضي. اليوم العالم يشهد فوضى كبرى من تشدّد وإرهاب واحتجاجات اجتماعية حارقة، إلى شعبوية وصراع بين ليبرالية كلاسيكية وأخرى جديدة، يسعى إلى تكريسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. كما يشهد العالم تمردا على النظم التي سار عليها لسنوات. في خضم كل هذا علت أصوات تبحث عن دور للفلسفة لـ”عقلنة” هذه الفوضى، وعادت إلى الواجهة حزمة الأسئلة التقليدية من قبيل لماذا بقيت الفلسفة تدور في فلك المثالية بعيدا عن تنزيلها إلى الواقع والمرور بها إلى التطبيق المادي أو ما يطلق عليه الفيلسوف الألماني كارل ماركس “البراكسيس”؟، كل هذه النقاشات الفكرية الجديدة القديمة، أطلّت برأسها في السنوات الأخيرة بسبب ما بدا واضحا من أن مفهوم الديمقراطية في حد ذاته قد وصل حد الإعياء والانهاك تماما  كمسألة النظام الليبرالي العالمي الذي يبدو أنه يلفظ أنفاسه.

تونس - مع كل عام يحتفي فيه العالم باليوم العالمي للفلسفة، تتم إثارة نفس التساؤلات والأطروحات الكلاسيكية التي دأب عليها معظم المفكرين والفلاسفة منذ سنوات كثيرة، على شاكلة لماذا لا يكون للفلسفة دور فاعل في تغيير المجتمعات؟ ولماذا يبقى الفعل -أو التفكير- الفلسفي طوباويا أو حكرا على منابر ضيّقة تحاول فيها النخب المثقفة الاستيلاء على كل ما يمكن أن تقدّمه الفلسفة من حلول ثقافية وسياسية واقتصادية وحتى علمية بعيدا عمّا أنتجته في القرون الأخيرة مدلولات الفعل الفلسفي من مدرستين تقليديتين شيوعية وأخرى ليبرالية ورأسمالية.

ولهذا الغرض الفلسفي، سلطت ندوة حول الفلسفة في مدينة الثقافة بتونس بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة الضوء على واقع الفلسفة بحضور عدد من الفلاسفة وذلك بدعوة من كرسي اليونسكو للفلسفة، تحدثوا عن أن حضور الفلسفة من جديد بعد تهميشها أصبح حقيقة ربما تكون حتمية بالنظر إلى ما تعرفه أعتى الدول المتبنية للنظام الليبرالي.

ضرورة حتمية

بدا النظام العالمي في السنوات الأخيرة منهكا، من انتكاسة أو لما شهدته أوروبا مؤخرا من اجتياح واضح للأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية أو ما عرفته فرنسا المثقلة بإرث ليبرالي من احتجاجات قادتها حركة السترات الصفراء ضد سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون في رسالة واضحة مفادها وجوب البحث عن بدائل فكرية تؤسس لاقتصاد يراعي خصوصيات المجتمعات وواقعها.

وبنفس “الضرورة الحتمية”، التي يشدد عليها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، بدا واضحا أيضا أن العالم العربي والثقافة الإسلامية باتا في حاجة ماسة وأكيدة لإنتاج أطروحات ومفاهيم جديدة يتم تنزيلها إلى الواقع لمقاومة حزمة من الملفات التي أربكت المنطقة وعلى رأسها التصحّر الفكري وتمادي الإرهاب والفكر المتطرّف الذي تسعى عدة دول لنشره في المنطقة حلما بالعودة إلى مفهوم الخلافة الإسلامية.

فتحي التريكي: السلطة السياسية تكره الفلسفة ولا تقبل بها لأنها لا تتحمل النقد
فتحي التريكي: السلطة السياسية تكره الفلسفة ولا تقبل بها لأنها لا تتحمل النقد

هنا أكد فتحي التريكي، الفيلسوف التونسي الذي يشغل منصب كرسي اليونسكو للفلسفة، لـ”العرب”، أن “كل ممارسة تستدعي خطابا معينا ونحن نريد أن يكون الخطاب الذي يشرع الممارسات الفنية خطابا فلسفيا كما هو الشأن في الغرب وألا تبقى الفنون بعيدة عن الفلسفة”.

وأقر التريكي بأن الفلسفة مغيبة في العالم العربي، بشكل كبير، وأيضا في العالم، حيث لا تبارح برجها النخبوي، وعزا ذلك إلى كونها لم تخرج إلى المجتمع المدني” فهي دائما تعمل ضمن أسوار الجامعات والمعاهد الثانوية، إذ تحمل الفلسفة صبغة تعليمية بيداغوجية أكثر من حضورها في المجتمع المدني”.

وتابع “نريد أن نبين أن الثقافة بدون فلسفة لا يمكن أن تذهب إلى بعيد بل ستصبح ثقافة منغلقة على نفسها وعلى ذاتها”. ورأى أن الترابط بين الفلسفة والثقافة ينقذ المجتمع من الإرهاب ويسمح بالارتقاء بالتعليم إذا اعتمدا النقد.

وقال “إذا كانت ثقافتنا نقدية فإننا لن نقبل الأفكار الجاهزة من هنا وهناك إذ أننا سنصبح ناقدين لثقافتنا أولا ولذاتنا، ثم لما يأتينا من الحضارات الأخرى وعندئذ نكون فاعلين”.

ورغم هذه الحاجة الماسة إلى الفلسفة كأحد أهم الروافد لإنتاج الفكر البشري والتي كانت وعلى عكس ما يتم ترويجه منطلقا أساسيا لمختلف العلوم التي تبسط نفوذها على عقول الدول والبشر اليوم، فإن التفسيرات والتحليلات لقصور الفلسفة وعدم تمكنها من اختراق النسيج المجتمعي لعدة دول تبقى من صميم اهتمامات الباحثين المهتمين بالمسألة.

من الإرهاصات التي رافقت الفلسفة في العقود الأخيرة أن مهمتها بقيت منحسرة في تحليل وتشخيص الوقائع دون الغوص في محاولة إنتاج فكر جديد يؤسس لبدائل اجتماعية وثقافية تنهض بالشعوب والمجتمعات وتجنبها الحروب والصراعات.

ردا على هذه الاستفهامات أشار التريكي إلى أن مهمة الفلسفة ليست التغيير بل اعتماد أساليبها الخاصة بهدف التوعية وشرح بقوله “الفلسفة في حد ذاتها هي عملية لتحديد المجالات وهي عملية تفسيرية تحاول أن تقاوم بتحليل كل المواضيع التي تأتيها الحياة اليومية ثم تكون عملية نقدية تبين لنا شروط إمكان إيجاد الشيء بإيجابياته وسلبياته في كل الأفكار وفي كل الأقوال والممارسات وهي أيضا عملية تشخيصية تشخص أمراض المجتمع ضمن العقليات المتواجدة”.

وتابع “الفلسفة هي عملية تنظيرية تقدم لنا نظريات متعددة في كل المجالات وبهذه الطريقة (التحديد، التحليل، النقد ثم التنظير) تكون الفلسفة قد حاولت إنهاض الفكر عند الناشئة أولا ثم للجميع حتى تكون نظرية نقدية وليست نظرية دغمائية”.

وتزامنا مع التطور العلمي والتقني بدا جليا أيضا أن مرد تهميش الفلسفة هو قدرة العلوم على أن تنتصر عليه كما توقع الفيلسوف الألماني إيدموند هوسرل، بما أن طبيعة العلوم قائمة على الموضوعية في حين أن التفكير الفلسفي بقي بمثابة مجرد أفكار نظرية. وقد غيبت الفلسفة كأحد منطلقات التفكير في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، أمام انحسار اهتمام الناشئة بالعلوم وهجر الكثير منهم للفكر الفلسفي، بحجة نخبوية الخطاب الفلسفي وصعوبة المفاهيم.

لكن حالة عدم اليقين التي تسود العالم بسبب الصراعات المستمرة واشتعال الحروب في أكثر من جبهة في الشرق الأوسط واستشراء آفة الإرهاب تستدعي حضورا قويا لدور الفلسفة خاصة أن النظام الليبرالي الذي ساد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي يتغير بسبب انتشار الشعوبية والأفكار الانعزالية المحافظة ومحاولة الولايات المتحدة في عصر دونالد ترامب الانكفاء على ذاتها تحت شعار “أميركا أولا”.

واعتبر التريكي أن تهميش الفلسفة متعمد “فالسلطة لا تقبل بالتفكير الفلسفي لأنها لا تتحمل النقد، كما أن الفلسفة هي توضيح في حين أن السلطة تريد استعمال الغموض؛ لذلك فإن العلاقة بين الفلسفة والسلطة هي علاقة صعبة”. وأضاف “لذلك السلطة تريد جعل الفلسفة سجينة الجامعات والمعاهد وحتى داخل الجامعات جعلتها شديدة الاختصاص”.

تغيير الواقع

Thumbnail

قصور الفعل الفلسفي عن تغيير واقع العالم اليوم، يعيد دائما الباحثين والمفكرين إلى تلك الثنائية القائمة على الصراع الدائم بين الفلسفة المادية والمثالية، فالأولى تصر على أن اللبنات الأولى لتغيير العالم تستوجب فهم الكون من منطلق تحليل حركة الإنسان المادية والتاريخ للوصول في النهاية إلى طرح متغيرات وأفكار بديلة، أما الثانية وهي المثالية ونظر لها الفيلسوف الألماني جورج هيغل فتنطلق من أن أساس الكون هو “الروح” وأن حركة المجتمع والتاريخ لا تبدأ إلا من تغييرات فكرية روحية عميقة تحدث في الوجدان والأخلاق وهو ما تستند إليه مثلا الحركات الجهادية دون أن تدرك ذلك.

وبعيدا عن هذه الثنائية الجدالية، تبدو الفلسفة اليوم مطالبة بتقديم توضيح مآلات النظام العالمي الجديد والبحث عن حلول فكرية لمعالجة قضايا تهدد الإنسانية كالحروب والتعصب الديني والطائفية والتمييز، حتى لا تكتفي بمراقبة وتفسير الأحداث فحسب. وأجمع ثلة من المشاركين في الندوة على أنه لا يمكن أن تكون هناك فلسفة دون ثقافة أو ثقافة دون فلسفة، وأيضا على محاولات السلطة الحاكمة في أي بلد قمع أي بوادر تفكير فلسفي نقدي.

هنا يعتقد المفكر التونسي فريد العليبي في تصريح لـ “العرب” أن ‏الفلسفة مغيبة وغائبة لأن بعض المشتغلين بها ارتبطوا بالسلطة ولا يهمهم سوى الحصول على ‏منافع  أكثر من الاهتمام بحكمة الحكماء. ويضيف أن الفعل الفلسفي مغيب بالنظر إلى طابعه النقدي فهو غالبا ما يزعج ‏السلطة السياسية و الدينية والإعلامية.

ويعتبر العليبي أن الفلسفة ليست فقط تفسيرا للواقع وإنما هي أيضا سعي لتغييره، محملا الإعلام مسؤولية عدم اهتمامه بكل ما يحدث من أنشطة فلسفية كثيرة.

وللتصدي لتأثير التكنولوجيا على الشباب والتي أسهمت في ضعف معارفهم الفكرية، يعتقد فتحي التريكي أن “الثقافة الفلسفية باتت ضرورة ملحة، وإذا ما أرادت الفلسفة أن تخرج من أسوار الكليات وتصبح فكرا للجميع عندئذ لا بد لها أن تسهل المفاهيم وأن تجعلها في متناول الجميع خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي”.

ويستنتج الباحثون أنه إذا كان التركيب العقلي للفلسفة من زمن تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي إلى بؤس الفلسفة لكارل ماركس قائما على التأمل فهي حاليا “خارج التأمل”.

7