بلا آثام

قبل التحرّك في ظهيرة الجمعة الماضية إلى المسجد المتاح بعد ساعة سفر بالسيارة؛ حملت للمرة الأولى من حقيبة سفري مجموعة الأقراص التي ابتعتها من مدينة “أكتوبر” المصرية، في أحد مساءات “حارة السوريين”. وتلك حارة استثنائية تُجسّد إرادة الحياة لدى شعب سوريا، يتصاعد صخبها ليلا، وتتلألأ أضواؤها بكل الألوان. ترتاد الأسر المقاهي الساهرة وتلتقي فيها وتطالع أحوال بلادها، وتتكثف أدخنة النراجيل، وتصطف عربات الباعة، تعرض كل شيء ذي ملمح سوري، بأسعار زهيدة. يزدحم المكان، وتتمدد المقاعد فتغطي الشارع وتتلاصق. ينشط الباعة المتجوّلون، ومن بين هؤلاء شُبّانٌ يعرضون حلوى ومعجنّات بيتية، صنعتها أمهاتهم لكسب الرزق!
من هناك ابتعت الأقراص العشرين، وكان ربعُها لشيوخ من مُقرئي ومرتّلي القرآن الكريم، الذين ذاع صيتهم خلال نصف القرن الماضي. وبالطبع كانت أقراص الأغاني والموسيقى، لعدد من ألمع مطربي ومطربات القرن الماضي، أي للذين عرفناهم قبل موجة الأغاني الجديدة التي لا نفهمها.
أحبُ الشتاء، وقد أحببه مرغما، لأنه قرين الدفء في الأماسي الباردة، ومُحفّز الحنين إلى مواقد الكبار، ثم إنني أتذكر قلبي ووطني على صوت المطر!
في رحلة الذهاب، اخترت شريط تلاوة -وليس تجويدا- للقارئ مصطفى إسماعيل، وسررت لأن القرص يبدأ بسورة “البقرة” الشاهدة على تكسّر أحد أحلامي الأولى في السجن، عندما عقدت العزم على حفظ كتاب الله، ولكنني لم أتوافر على التلاوة حتى الحفظ البات، غير أن كل آيات “البقرة”، في كل مرة أعود إليها أو أسمعها، تُعيدني بكثير من الحنين إلى تلك المحاولة الأولى. وهذا بحد ذاته يستحثّ جانبا من الذكرى!
في رحلة العودة، أدرت قرصا لأم كلثوم، تتصدره أغنية “إنت الحب” التي لم يتح لها أن تشتهر، على الرغم من شجن موضوعها، المكتوب بالشعر الغنائي العامي، وهذا طبيعي عندما يؤلف أحمد رامي بالعامية، وهو ذو الباع الطويل في الشعر الفصيح.
لا أكتم أنني في رحلة العودة من المسجد؛ تذكرت مأزق الذين التزموا أيديولوجيات اليأس والقطيعة مع الموسيقى ومع الشعر الذي يرسم تقسيمات العاطفة الإنسانية. فهؤلاء يجافون الذكرى والطبائع الرائقة، لكنهم يعشقون الخطابة التي وصفها الفلاسفة، بكونها الكفاءة العالية التي ترفع الكذب إلى مرتبة الطرب. لقد بات الذين ضللتهم الحزبية الغبية، يتحاشون أصوات الموسيقى، بخلاف ما كانت عليه أمزجة الفقهاء والمقرئين الأفذاذ في عهود الاستقرار والسلام الاجتماعي.
في سجن بئر السبع الصحراوي كان إمامنا في صلاة العشاء أحد أظرف زملائنا وأتقاهم، وهو نفسه الذي يتولى بعد الدعاء إحياء الحفل الغنائي دونما آثام.