بلاد تقصف العمر

مصر الموصوفة بأم الدنيا، والتي كانت ملاذا آمنا قبل أن يتخلى عنها اللقب لتراجع مستوى الرعاية الصحية وتزايد الهموم الحياتية التي يعيشها مواطنيها.
الثلاثاء 2019/04/02
فاتورة التمدن

ربما مع الاحتكاك الثقافي والتطور التكنولوجي الهائل الذي نعيشه الآن، انتقلت إلى البشر ثقافات، وسبل حياة أفضل تساعد على الحفاظ على عمر الإنسان بصورة أطول وتحرص على صحة أوفر عن ذي قبل، بات العمر المتوقع للإنسان أكبر بكثير مما كان عليه أجدادنا.

لكن بالفعل يتفاوت عمر الإنسان من دولة لأخرى، ومن مدينة لغيرها داخل نفس الدولة، فكثيرا من الملوثات المتربصة بصحة الإنسان وعمره تقبع في المدن، ذلك الغول الذي يرهبوننا منه دائما، متدثرين بريف طيب.

حقيقة راسخة بأن أهل الريف يتمتعون بصحة أفضل، وعمر أطول من أهل المدن، ذلك لاستنشاقهم هواء نقياً، وتناولهم طعاما صحيا، مع انعدام المؤثرات المدنية من الضغوطات النفسية والعوامل المحبطة، والانكسارات، والهزائم النفسية، القاضمة من مزاجات البشر وصحتهم العقلية والنفسية.

كذلك تمتع أهل الريف ببيئة صحية خالية من تلوث الهواء، عوادم السيارات، نفايات المصانع المتهالكة، ضعف شبكات المياه، والصرف الصحي، ملوثات المدينة التي توصف بكونها “تقصف” العمر، وتقضم من سنوات حياة بعض البشر أكثر من اللازم، تلك المدن المتهمة بالغواية، وأن بداخلها “نداهة” تخطف أهل البندر، والحضر، يدخلونها بدهشة وانبهار يدومان طويلاً، ولا تفك أسرهم إلا بعد سنوات.

هل تؤثر طبيعة المكان على عمر الإنسان؟ سؤال ربما تبادر لبعض الأذهان في نظرة تحليلية عميقة لقياس مستويات أعمار أهل بعض البلدان ومقارنتها ببلدان أخرى، قد لا يصل مواطنوها لسن معين، وتقصف أعمارهم باكراً، فتكون فترة الشباب هي مرحلتهم العمرية الوحيدة التي يتوقف عندها قطارهم، ومن يصل منهم لمتوسط أعمار أطول، تصل للخمسينات والستينات فهم محظوظون بالتأكيد، مع كونهم قلة لا يمكن التعويل عليها.

دراسة طبية أجراها فريق علماء دولي، ونشرتها دورية “ذا لانست” الطبية، مفادها أن الأماكن تؤثر في حياة البشر.

حلل الباحثون المهتمون بيانات صحية تخص أشخاصا من 195 دولة، خلصوا إلى أننا في المتوسط نستشعر العديد من بواعث القلق المرتبطة بالعمر عند سن الخامسة والستين في المتوسط، وهذا السن المعترف به كعمر شيخوخة مفترض.

وتوصل الباحثون إلى أن مشاكل صحية كفقدان السمع والنوبات القلبية وانتكاسات الأعصاب، يمكن أن تصيب الإنسان في أعمار متفاوتة وفقا للمكان الذي يعيش فيه، وأن الفارق بين مَن يشيخون بشكل طبيعي، ومَن يشيخون مبكرا قد يصل إلى نحو ثلاثة عقود أو يزيد، وهذا ما يحدث في دول تعاني هشاشة المنظومة الصحية.

وتكشف الدراسة عن أن الزيادة في متوسط طول الأعمار في مراحل متقدمة من السن يمكن أن تكون بمثابة فرصة أو تهديد لإجمالي مستوى رفاهية السكان، وذلك على حسب المشكلات الصحية المرتبطة بالتقدم في السن التي يختبرها هؤلاء السكان، بغض النظر عن العمر الزمني.

وحدد الباحثون 92 مرضا، يقود إلى انحدار لا يمكن التصدي له في الصحة الجسدية والنفسية، وأكثر هذه الأمراض انتشارا هي تلك المرتبطة بالقلب والأوعية الدموية والسرطان.

ترتكز الدراسة على عدة مؤشرات ذات ثقل ملموس كمتوسط الدخول ومستوى التعليم، وإجمالي معدل الخصوبة. بينما تشهد دول نامية ذات مستوى اجتماعي وديموغرافي منخفض متوسطات أعمار أقل، إلا أنها تعاني أيضا آثار الشيخوخة في أعمار مبكرة.

قد تنم معدلات الوفيات، ومتوسط الأعمار في بعض البلدان عن ترهلات حكومية، وضعف بنى صحية وبيئية أساسية، وتؤكد بأن دولة ما، فشلت في الحفاظ على مواطنيها بصحة جيدة بمنأى عن الأمراض والاعتلالات الجسدية والنفسية، وساهمت في تحقيق طفرة في مجال الصحة ومتوسط عمر الإنسان.

الغريب أننا في البلاد العربية دائمو الدعاء لبعضنا البعض بالسعادة وطول العمر، بيد أن كثيرا من هذه البلدان “تقصف” عمر شعبها. فمصر الموصوفة بأم الدنيا، والتي كانت ملاذا آمنا قبل أن يتخلى عنها اللقب لتراجع مستوى الرعاية الصحية وتزايد الهموم الحياتية التي يعيشها مواطنيها.

يا ليت حكومات بعض الدول العربية تراعي هذه المسألة، وتعيد النظر في مثل هذه الدراسات التي تؤكد على أن الغرب لم يعد يفكر فقط في تحقيق مستوى أداء سياسي وإداري ناجح، بل بات يبحث في جلب السعادة والعمر الطويل لمواطنيه.

21