"بكرة وبعده".. اشتباكات فلسفية تحلل الواقع الأردني والعربي

يواصل مسرح شمس تقديم أعمال مسرحية نقدية وفلسفية مقتبسة من كلاسيكيات المسرح العالمي، بطاقات ومواهب أردنية، تثبت مدى جدارتها باعتلاء خشبة المسرح والتحدث بلسان الكثيرين ممن لا تزال النصوص الغربية التي كتبت في ظرفية زمانية ومكانية مضت صالحة للتعبير عن واقعهم الراهن.
عمان - انطلاقا من نص “انتظار غودو” للكاتب المسرحي الأيرلندي صامويل بيكيت، يقدم العرض المسرحي “بكرة وبعده”، من إعداد وإخراج عبدالسلام قبيلات، قراءة للوضع الراهن عربيا وأردنيا، متكئا على مدارس العبث والتراجوكوميديا والرمزية في المسرح، ومحملا بإسقاطات على مشهديتي الراهن العربي والمحلي بكل تفصيلاتهما وتعقيداتهما المعيشية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقيمية والفكرية ضمن اشتباكات فلسفية.
و”بكرة وبعده” المسرحية التي عرضت مؤخرا على مسرح شمس في عمان، هي من تمثيل إسلام العوضي وحياة جابر وكفوف إبراهيم العلمي، وتأليف موسيقي موسى قبيلات، ومساعد مخرج معتصم سميرات. ويشارك في الأداء التمثيلي إدريس الجراح وحيدر الكفوف وحياة جابر وروبرت حدادين، ويقوم بتنفيذ الإضاءة ماهر جريان وتنفيذ الديكور محمد السوالقة.
يتناول العرض المسرحي ثيمة الانتظار المحمل بالأمل والمتأرجح بين الإحباطات المتوالية، ويتصدَّى لمسألةِ الصراعِ الأزليّ في البحث عن الحريَّة، وما يخلفه من حواجز نفسيَّة وروحية تحول دون التواصل الإنساني، وتؤدي إلى القطيعة وإثارة الغيرة والحقد بين البشر، هذه القطيعة التي تفوق كل التصورات أحيانا.
وفي النص الأصلي للمسرحية يواظب رجلان هما فلاديمير وإستراجون على انتظار أحد ما يدعى جودو، وأثناء انتظارهما يتحاوران في جدوى الانتظار وحول من ينتظران وموعد اللقاء، لأن الأمور تبدو أمامهما مبهمة. لكن لسبب من الأسباب، يظل مجهولا، لا يأتي جودو، ورغم ذلك لا تتوقف الشخصيتان عن انتظاره، وهو ما يتوافق مع حالة الإنسان العربي أو الإنسان في عالمنا العربي عامة الذي يغلب عليه فعل الانتظار والترقب لكل شؤون الحياة.
أما النص العربي “بكرة وبعده” فقد غير هوية بطلا العمل فجعلهما رجلا وامرأة، وهذا التغيير إنما يهدف إلى جعل القضايا المطروحة في نص بيكيت ذات بعد عربي يشمل قضايا الجنسين، دون تغليق التساؤلات الفلسفية، بل بالعمل على جعل النص رمزيا وغير مباشر، ولذلك أيضا تم تحويل نص الكاتب الأصلي إلى نص عامي خفيف يسهل فهم مفرداته في الدول العربية.
وعن هذه المسرحية يقول الكاتب الأردني سليم النجار إنها “تُفنِّد واقعاً متآكلاً لا تغلبه سوى الأحلام، فيرتوي الفنُّ المسرحيُّ حين يرشح روبة الذاكرة وتنزُّ من عصارها ظلالنا.. تَسلَّحت المسرحية بمواقف تجاه الواقع والوجود، واقعيَّته لم تقوَ على محو رومانسيَّة ثوريَّة تحفرُ فيه، ويحفر لها”.
وتشكِّل ثيمة “إسلام العوضي وحياة جابر”، بطلا العمل، مركزا رئيسيا في بلورة الصراع، الذي كان بمثابة بوصلة توجِّه مسارات الأحداث التي انطلقت مع انطلاق مشاعر البحث عن الحريَّة المسكوت عنها من جانب الطرفين حيث لم يصرِّح أحدهما للآخر بحقيقة هذه المشاعر نتيجة شعورهما بخوف دفين.
ويضيف الكاتب “هنا استطاع مخرج المسرحيَّة عبدالسلام قبيلات توظيف المعنى الذي يحمله النص في بُعده الدراميِّ، من حيث أنَّ لعنوان المسرحيَّة تداخلاً عضويَّاً مع دلالة الأحداث ومعناها، حيث يُعبِّر دراميَّاً عن شعور الشجرة والصليب الذي كان معلَّقاً عليها، فهذه إشارة إلى أنَّ الحريَّة مصلوبة، وقد استطاعت الممثلة حياة جابر تجسيد ذلك من خلال حركة جسدها الذي وُظِّفَ بشكلٍ لافت، هذه الحركة للجسد الذي بنى علاقة مع فضاء المسرح عبر الزمن، خاصةً وأنَّ مفردات الفضاء -من ملابس إسلام العوضي وحياة جابر واللوحة المغطَّاة بصور شخصيات- بدت مجتزأة وتتواصل عبر الزمن، من خلال صوت الحياة الذي يستمر مع إسلام العوضي في مسايرة حياة، وقد كان لافتاً في حركته الجسديَّة التي شكلت ظلالاً لصوت المرأة”.
وعمل هذا المسار القافز للأحداث على إرجاء حالة الإقناع عند المشاهد بتوالي الأحداث منطقيَّاً، وبالتحديد ذلك المشهد الذي كان يمكن أن يتماهى إلى مستوى محاكاة ما يُراد منه على صعيد الرسالة الفكريَّة، عندما دخل صاحب الصوت الذي بَدا في أول المشهد شخصيَّة مُلتبسة ذات أبعاد نفسية، كما وظَّف ملامح الوجه في إرسال رسالة مُعبِّرة تحمل ثنائيَّة متضادَّة: الطيبة والعنف، وما ترتَّب عليها من تداعيات وانعطافات حادَّة في مسارات البُنية الدراميَّة، سواء كان في زمن وقوع الأحداث في الماضي أم في زمن محاولة اكتشافها في الحاضر، وما نتج عنها، وما أدت إليه من مخرجات ونتائج انعكست على مجمل الوقائع والأحداث والشخصيَّات، بالرغم من أنَّ هذا المشهد يمتلك بُعداً جوهريَّاً وبؤرة مركزيَّة في رسم خطوط الصراع الجدليَّة الأساسيَّة، التي تُعدُّ مُوجِّهةً لمجريات الأحداث ومسارها.
هذه المنطلقات التي شكَّلت خطوط صناعة مسرحية “بكرة وبعده” وظَّفتها الممثلة من خلال نبرتها الصوتية التي كانت تأخذ في بعض الأحيان صوتا أوبراليا، بطريقة تهدف إلى تحقيق فعل التواصل مع الرصيد الجماليِّ والذوقيِّ للمشاهد، عبر تقنيات معاصرة أنتجتها ثقافة عصر الاتصالات والتكنولوجيا ومُتغيِّراتها المُتسارعة.
كما أن صورة الظلال، وحركة المُمثِّل في الصورة، وقدرة الممثلة على التناغم مع صورة الظلال ضمن إيقاع العرض المسرحي، أسهمت في تحقيق فعل التواصل مع المشاهد ليكون العرض المسرحي أكثر قدرة وتمثُّلاً لنبض الواقعِ اليوميِّ وتحوُّلاته، ومتغيراته، وتبدُّلاته، التي يعيشها المشاهد بكل تفاصيلها.
مخرج المسرحية غير هوية بطلي العمل، وهذا التغيير جعل القضايا المطروحة في نص بيكيت ذات بعد عربي
ويرى الكاتب النجار أن المخرج موسى قبيلات “فتح أشرعة عوالمه الموسيقيَّة التي صاحبت العرض على أنسجة وتآلفات صوتيَّة لا تَقِلُّ أهميةً عن المفهوم الجامد للشرقيِّ والغربيِّ، فقد ذهب إلى أبعد من تقليديَّة المُشترَك بينهما رغم أهميَّته، وتجلى ذلك كتأليفٍ حافَظَ على أصالةٍ متجدِّدة لناحية لغة الموسيقى المفتوحة على الجملة النصيَّة للمسرحيَّة، وكانت له القدرة على ضبط إيقاع الموسيقى لتواكب المشاهد المسرحيَّة، وكأنهما يتناغمان في عرض ميلودرامي، لكنَّه ميلودرامي مسرحي”.
لذلك جاءت مسرحيِّة “بكرة وبعده” نموذجا لمسرحٍ متجدِّدٍ ومبتكر، من خلال التركيز على البحث والتواصل، الذي يأخذ في الغالب منحىً جماعيا شموليا نابعا من خصوصيَّة التجربة المسرحيَّة ومنح الجمهور تفاعلا ذهنيا يقود إلى تعدد القراءات، من خلال عمليات التأويل والتكثيف الدلاليِّ وإعادة إنتاج المعنى.
وتجدر الإشارة إلى أن مسرح الشمس فضاء فني ثقافي، يقع في العاصمة الأردنية عمان، ويعد مشروعا رياديا هدفه المساهمة في تطوير مسيرة الثقافة والفن في الأردن وتقديم المساعدة للمبدعين والمثقفين وخاصة الشباب منهم.
وأعلن عن افتتاح مسرح الشمس في عام 2017، إلا أن فكرته ولدت قبل ذلك بكثير. أسسه عبدالسلام قبيلات كشركة غير ربحية عام 2016، ليكون بمثابة ملتقى يعرض جميع الفنون على خشبة أب الفنون. ويستقبل المسرح بشكل دوري عروضاً مسرحية أخرى بالشراكة مع فرق فنية محلية وعربية وعالمية، لتكريس المسرح كبيت ثقافي يضم الجميع ويهتم بتطوير الحركة المسرحية والفنية في الأردن.
كما يبدي المسرح أهمية بإقامة الورش التدريبية والدورات التأهيلية للشباب والأطفال، من أجل إعادة صقل مواهبهم وتنمية قدراتهم الفنية، عبر برامج متخصصة بإشراف متخصصين.
ويضم المسرح بين جنباته إمكانية إقامة معارض فنية للرسومات والمنحوتات وغيرها مما ابتدعته يد الإنسان من فنون.
ويسعى القائمون على هذا الصرح إلى مواكبة كل تحديث، وكل ما من شأنه تطوير وزيادة فعالياته، ليلبي جميع الأهداف التي أنشئ من أجلها ويعمل على تحقيقها.