بعد "ليبرتي" الدور على "الوطن" في الجزائر

صحيفة “الوطن” الجزائرية التي تعتبر من أكثر الصحف نجاحا، بالإضافة إلى كونها الأكبر تداولا، تجد نفسها اليوم تحتضر بسبب ضغوط اقتصادية مارستها السلطات لكتابة نهايتها بسبب عدم رضوخها.
الجزائر- بدأ صحافيو وعمال جريدة “الوطن” الجزائرية الناطقة بالفرنسية، الأربعاء، إضرابا عن العمل ليومين، احتجاجا على عدم قبض رواتبهم منذ مارس الماضي، بسبب معاناة الجريدة الأشهر في البلاد من أزمة مالية خطيرة.
وجاء في مقال في صحيفة “الوطن” أن إضراب اليومين سيكون كل أسبوع، ولمدة خمسة أسابيع، فيما أعلن ملاك المؤسسة التي تصدر الصحيفة، في اجتماع لهم الأسبوع الماضي، أنهم سيتولون بأنفسهم كتابة المقالات.
ومنذ فبراير الماضي، تقول إدارة “الوطن”، التي يبلغ عدد توزيعها الآن 50 ألف نسخة فقط مقابل 200 ألف قبل عشر سنوات، إنها “غير قادرة على دفع رواتب موظفيها البالغ عددهم 150 موظفا”.
وبحسب مدير النشر محمد الطاهر المسعودي، فإن هذا الوضع مرتبط بتجميد حسابات الشركة من قبل البنك الرئيسي في الجزائر، وهو “بنك القرض الشعبي الجزائري”، بسبب قرض لبناء مقر جديد للصحيفة لم تشغله قط.
ويطالب البنك من الصحيفة بسداد متأخرات الديون الضريبية التي تعود إلى فترة وباء كورونا، عندما سمحت السلطات للشركات بتأجيل دفع ضرائبها.
وبعد انتهاء الأزمة الصحية، أمرت السلطات شركة نشر الصحيفة الناطقة بالفرنسية الأكثر نفوذا في الجزائر بدفع مبلغ إجمالي قدره 32 مليون دينار (أكثر من 210 آلاف أورو) “دون تأخير”.
وقال مدير النشر “رفضت سلطات الضرائب منحنا جدول سداد على النحو المنصوص عليه في القانون”، موضحا أن “موظف الضرائب الذي قرر منح الصحيفة فرصة من خلال منحها فترة سداد أطول، تم استبداله ونقله”.
وجاء طلب سداد هذا الدين الضريبي على رأس مشكلة أخرى. إذ إن الإدارة، التي كررت لعدة سنوات أنها تعاني “نقصا في الموارد المالية” بعد نضوب موارد الدعاية الخاصة بتعليق “أحادي الجانب” لاتفاقية موقعة مع الوكالة الوطنية للنشر والإعلان (ANEP)، وهي هيئة عامة تحتكر إعلانات الدولة، كان عليها اللجوء إلى قرض مصرفي آخر لدفع رواتب الموظفين.
لكن تراجع النشاط في يناير دفع البنك إلى تقليص مبلغ هذه السلفة المالية. واستنكر المسعودي هذا القرار الذي اتخذه البنك، بما أن الوطن “ميسورة” إذ للجريدة “دخل مرتبط بمبيعاتها” و”أصول” تسمح لها بسداد ديونها في حالة حدوث مشاكل في السيولة النقدية. وقد حاولت الإدارة بيع الأرض والمبنى الجديد، لكن بسبب حساباتها المجمدة لم تستطع إجراء أي عملية.
ومع ذلك، قبل بضع سنوات، لم يكن أحد يتخيل أن “جوهرة الصحافة الجزائرية”، التي تم تأسيسها في عام 1990، ستواجه مثل هذا المصير المأساوي.
ومنذ إطلاقها، اشتهرت “الوطن” بتقاريرها اللاذعة، وأدى فضحها للفساد داخل السلطة المدنية والعسكرية إلى إيقاف نشرها عدة مرات، وتعرضت إلى المضايقات القانونية. كما أن العقوبات الإدارية لم تتوقف أبدا على مر السنين.وتبنت صحيفة الوطن منذ تأسيسها في مطلع تسعينات القرن الماضي خطا ناقدا للسلطة، وللتيارين الإسلامي والمحافظ حينها، خاصة لمّا هيمن الإسلاميون في جبهة الإنقاذ المنحلة على نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت نهاية العام 1991، وجرى توقيفها قبل الدور الثاني بقرار من قيادة المؤسسة العسكرية.
وظلت الصحيفة توصف بـ”الناطق الرسمي” لصقور المؤسسة العسكرية خلال حقبة الحرب على الإرهاب، فقد كانت مقربة من العديد من النخب العسكرية آنذاك، وكانت تحوز على السبق الأمني في مادتها الإعلامية اليومية، كما كانت تعبر عن رؤيتهم السياسية والأيديولوجية.
وفي عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، شكلت “الوطن” نفسها كصحيفة معارضة تعتبر ضراوتها حالة نموذجية في العالم العربي. وقد مكنتها المكاسب المالية غير المتوقعة، المرتبطة بالصحة الاقتصادية الجيدة للبلاد في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، من اكتساب الوسائل اللازمة للحفاظ على استقلاليتها، إذ أسست مطبعتها الخاصة بالشراكة مع صحيفة ”الخبر” الناطقة باللغة العربية، للتحرر من ضغوط السلطة. وفي عام 2010، بدأت الصحيفة في بناء برج مكاتب في الجزائر العاصمة، كرمز لازدهارها المالي.
ولكن بسبب “عدم احترام معايير البناء”، فإن المقر، وهو مبنى زجاجي يطل على خليج الجزائر، ظل مهجورا. ويؤكد ملاك الصحيفة أن السلطات تريد “معاقبتهم على استقلاليتهم التحريرية”، بينما تستحضر السلطات مخالفة بسيطة لقواعد تنظيم المدن.
وفي الواقع، منذ عام 2014، دفعت “الوطن” ثمن حملتها ضد الولاية الرابعة لبوتفليقة، وأوقفت إعلانات الدولة عن الصحيفة. ومع استقالة بوتفليقة تحت ضغط التظاهرات الشعبية في ربيع 2019، عادت الإعلانات الحكومية للصحيفة. لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد حسم مقال تحدث عن قضايا فساد مزعومة لأبناء قائد الجيش السابق أحمد قايد صلاح، مصير الصحيفة.
وفي مايو الماضي، زار وزير الاتصال محمد بوسليماني هيئة تحرير “الوطن”. ووعد “ببادرة” لفك أزمة الشركة، كانت اللفتة مشروطة بضرورة “تسليط الضوء على ما هو إيجابي في البلاد”. لم يغير المسؤولون في الصحيفة خطهم التحريري ولم يتحقق وعد الوزير.
وكانت الصحيفة، وهي قائدة الاحتجاج السياسي، أطلقت قبل أشهر استغاثة مفادها “لا نعرف مصير ‘الوطن’ خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة، وربما أقل مما كنا نأمل. لكن ما يمكن أن نؤكده لكم، أيها القراء الأعزاء، هو أنه منذ الإنذار الأخير الذي زعزع الكثير من اليقين بشأن الوضع الحرج للغاية للصحيفة من حيث التوازن المالي، ساءت الأمور لتصل اليوم إلى درجة من الركود تهدد بشكل خطير فرص بقاء الصحيفة”.
وفي محاولة للبقاء، أعلنت إدارة الصحيفة لقرائها زيادة سعر البيع من 30 دينارا إلى 40 دينارا. وقالت في بيان “سيعرف أصدقاؤنا بأنفسهم أن العشرة دنانير الإضافية التي ستُطلب منهم اعتبارا من الأول من مارس ليست للربح، ولكنها في الحقيقة بعض الهواء لإنعاش الخزينة. وبعبارة أخرى، تجنب التقدم بطلب لإشهار الإفلاس”.
يذكر أن الصحافة الجزائرية المستقلة ولدت وسط اضطرابات أكتوبر 1988، ولم تدم “حريتها” طويلا إذ أصبحت رهينة للنظام السياسي، الذي يعتمد نموذجا اقتصاديا عفّى عليه الزمن.
ولم تعد غرف الأخبار في الجزائر اليوم تحتسب عدد العناوين التي تختفي، دون أن يثير ذلك أدنى عاطفة. وتوقف نشر ستة وعشرين صحيفة بين عامي 2014 و2017. وتتقلص الصحف الصادرة باللغة الفرنسية أكثر من غيرها، إذ اختفى أكثر من أربعين عنوانا منذ التسعينات.
منذ إطلاقها، اشتهرت “الوطن” بتقاريرها اللاذعة، وأدى فضحها للفساد داخل السلطة المدنية والعسكرية إلى إيقاف نشرها عدة مرات، وتعرضت إلى المضايقات القانونية
وبينما كانت الصحف الناطقة بالفرنسية على قدم المساواة مع الصحف الصادرة باللغة العربية، فإنها تمثل الآن ثلث العناوين الموجودة في البلاد وعددها 149 عنوانا. وانخفض تداولها بنسبة 50 إلى 60 في المئة في بضع سنوات. وتطبع أربع أو خمس جرائد يومية فقط أكثر من 10000 نسخة، بينما كانت هناك 21 نسخة في عام 2016. وتظهر التقارير الأخيرة احتمالات أكثر كآبة من أي وقت مضى.
وفي أبريل الماضي، توقفت صحيفة “ليبرتي” التي تعتبر من أعرق الصحف الجزائرية، بعد قرار مالكها رجل الأعمال الثري يسعد ربراب إغلاقها إثر صفقة مع السلطات الجزائرية، منهيا بذلك مسيرتها التي امتدت ثلاثة عقود. وكانت “ليبرتي” تأسست مع بداية التعددية الإعلامية، وصدر أول عدد لها في عز العشرية السوداء يوم السابع والعشرين من يونيو 1992، وتبنّت منذ ذلك الحين خطا تقدميا وحداثيا.
وأكد مقربون من ربراب أن قراره التخلص منها “يعود إلى اعتقاده بأن الحكومة تعرقل مشروعاته الاقتصادية، بسبب خط صحيفته المعارض”.