بشارة بطرس الراعي يقرع أجراس الخطر خوفا على الديمقراطية والمسيحيين

أشار رأس الكنيسة المارونية الكاردينال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، مؤخراً، إلى أنه يخشى على لبنان من وجود النازحين السوريين على أرضه، مشدّدا في الوقت عينه على أنه لا يحبّذ ربط عودتهم إلى بلادهم بالحل السياسي المنشود لأن ذلك “أكبر خطأ في لبنان”.
لكن الراعي، الذي حرص على عدم تفسير الكلام الذي أدلى به أثناء استقباله المجلس الجديد للرابطة المارونية على أنه ضد النازحين السوريين، أكّد أنه “لا أريد على الإطلاق أن يفهم الرأي العام أننا ضد النازحين. أبداً نحن معهم في العودة إلى وطنهم وتاريخهم. لديهم حضارة. ليعودوا إلى ثقافتهم. واللّعبة الدولية التي أشاعت الحرب وهدّمت الحجر تريد أن تعيدهم وتربطهم بالحل السياسي”.
وأضاف “نحن لسنا ضدكم. نحن معكم. ونقول لهم يجب أن تعودوا إلى وطنكم بكرامة لأن وجودكم بات يشكل خطراً علينا من كل الجوانب. نحن مع صوت فخامة رئيس الجمهورية الداعي إلى الفصل الكامل بين الحل السياسي في سوريا وعودة النازحين. أما ربطهم ببعض، فهذا أكبر خطأ في لبنان. مضى على الوجود الفلسطيني في لبنان 71 سنة والحل السياسي لم يأت”.
خليفة بطريرك الاستقلال
منذ أن تبوّأ الراعي سدة البطريركية المارونية في 15 مارس 2011 خلفاً للبطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي قدّم استقالته لأسباب صحية، وهو ينتهج مواقف متميّزة عن مواقف سلفه، خصوصاً في مسألة الأزمة السورية والنازحين السوريين، وهذا ربما ما جعل نظرة اللبنانيين إليه تنقسم بين من يرون فيه صوتا للعقل وراعياً لمصالح الموارنة، وبين من يعتبرون أنه “يهدم نظرية السيادة والاستقلال” التي اشتهر بها صفير والذي وصف يوما بأنه “بطريرك الاستقلال الثاني للبنان”.
والراعي الذي ولد في قرية حملايا في قضاء المتن من محافظة جبل لبنان في 25 فبراير 1940، انخرط في سلك الرهبنة باكرًا، وهو يُعتبر أول بطريرك قادم من الرهبنة منذ البطريرك طوبيا الخازن قبل نحو ثلاثة قرون.
درس في لبنان وإيطاليا وعمل في الفاتيكان، ودرّس مواد لاهوتية وحقوقية كنسيّة في جامعات عدّة، قبل أن يصبح أسقفًا عام 1986 ورئيساً لأساقفة جبيل عام 1990، وهو إلى جانب كونه البطريرك الماروني، يعتبر رئيس مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك.
منحه البابا السابق بندكيتوس السادس عشر لقب كاردينال في الكنيسة الجامعة، وهو رابع بطريرك ماروني يتم منحه اللقب التالي للقب بابا، في الكنيسة الكاثوليكية. ويعتبر البطريرك الراعي أول عربي وماروني في العصور الحديثة يشارك في الانتخابات البابوية، بعد أن شارك في المجمّع المغلق لعام 2013 الذي انتخب البابا الحالي فرنسيس.
سياسة رعوية
والمعروف عن البطريرك الراعي أنه تولى مسؤولية اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، وهو بالتالي ليس غريبا عن الكاميرات لا بل يذهب البعض إلى اتهامه بحب الظهور، فتراه بالتالي لا يفوّت مناسبة إلا ويكون له من خلالها حديث إلى وسيلة إعلامية أو تصريح يثير من خلاله زوبعة نتيجة المواقف التي يطلقها.
لكن الراعي، الذي يحمل على كاهله مسؤولية الموارنة في أنطاكيا وسائر المشرق، بدأ ولايته البطريركية من حيث لم ينته سلفه البطريرك صفير، فالأخير ورغم أنه يحمل اللقب والمسؤولية عينهما، إلا أنه لم يقم يوما بزيارة سوريا لتفقد أحوال “الرعية” المارونية فيها، نظرا لموقفه الواضح والصريح المناهض لنظام “الأسدين”، أي الرئيس الراحل حافظ الأسد ونجله الرئيس الحالي بشار.
بالنسبة لصفير، كان حافظ الأسد محتلا للبنان، ونجله بشار استمر في الاحتلال وتلطّخت يداه بدماء العديد من القادة اللبنانيين، كما والده، ولذا كان يرفض الذهاب إلى سوريا، حتى ولو في زيارات رعوية، وهو ما كان يفترضه منصبه، لكن الراعي وضع هذا الاعتبار جانبا وتوجه في أول زيارة “رعوية” إلى سوريا في 10 فبراير 2013، مشيرا في العظة التي ألقاها في كنيسة مار أنطونيوس في حي باب توما في العاصمة السورية دمشق، إلى أن “الإصلاحات لا تفرض فرضا من الخارج بل تنبع من الداخل”، في إشارة إلى انتفاضة الشعب السوري ضد نظام الأسد التي انطلقت للمطالبة بإصلاحات تضمن له الحرية والكرامة.
ولفت الراعي إلى أن “الإصلاحات تكون بحسب حاجات كل بلد ولا أحد أدرى بشؤون البيت مثل أهله”، داعيا إلى “إجراء الإصلاحات بالحوار والتفاهم والتعاون”.
واكتسبت هذه الزيارة في حينها بعدا استثنائيا نظرا إلى أنها كانت الأولى لبطريرك ماروني إلى سوريا منذ استقلال لبنان في العام 1943، وهي جاءت بعد تلك اليتيمة التي قام بها البطريرك الراحل مار أنطون بطرس عريضة في زمن الانتداب الفرنسي.
وكرت سبحة زيارات الراعي إلى سوريا، ولكن الأمانة تقتضي القول بأن البطريرك الماروني لم يلتق خلال زياراته أياً من المسؤولين السوريين الذين كانوا يودون حتماً استغلال أي من زيارات رأس الكنيسة المارونية للترويج للنظام الذي يمعن في انتهاك حقوق شعبه البسيطة والمحقة، فتفادى بذلك أي إحراج كان يمكن أن تسببه هذه اللقاءات له على المستوى اللبناني الداخلي، وحتى الإقليمي والدولي.
عاد الراعي الذي أطلق شعار “الشراكة والمحبة” على ولايته البطريركية، على تأكيد الانفتاح على بعد لبنان العربي فقام بزيارات تاريخية إلى الخليج العربي، حيث وطأت قدماه العاصمة السعودية الرياض في 13 نوفمبر 2017 تلبية لدعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، ليصبح بذلك أول بطريرك ماروني يزور الديار الإسلامية المقدسة.
وقد أشارت مصادر مقربة من الصرح البطريركي في بكركي في حينه إلى أن الراعي سيؤكد من الرياض على “سياسة النأي بالنفس عن الصراعات في المنطقة وعدم دخول لبنان في سياسة المحاور”. وقبيل مغادرته بيروت، لفت الراعي في تصريح له من مطار بيروت إلى أن “زيارتي للسعودية اتخذت صفة تاريخية ومهمّة بالنسبة للحدَث الذي نعيشه في لبنان”، مشيرا إلى أن “المراسلات بين البطريركية المارونية والسعودية لم تنقطع على مر التاريخ وهذه الزيارة هي الأولى من نوعها”. وأشار إلى “أننا نأمل كل خير من هذه الزيارة لأن السعودية لم يأت منها إلا الخير وهذه العلاقة مميزة والصداقة موجودة والمملكة كانت إلى جانب لبنان في كل الظروف الاقتصادية، الاجتماعية، الأمنية والإنمائية”.
وتوّج الراعي زياراته إلى الخليج بزيارته إلى الإمارات العربية المتحدة بمناسبة زيارة البابا فرنسيس إليها، حيث نظمت الجالية العربية هناك قداسا إلهيا حاشدا، في كاتدرائية القديس يوسف للاتين بأبوظبي، ترأسه البطريرك الماروني، يشاركه بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، وعدد من الأساقفة والكهنة، الذين وصلوا إلى الإمارات للمشاركة في استقبال رأس الكنيسة الكاثوليكية والترحيب به في زيارته التاريخية.
الراعي وحزب الله
في السياسة اللبنانية الداخلية، اجتهد البطريرك الراعي كثيرا لوضع حد للخلافات المارونية – المارونية فتمكن في يوليو 2011 من جمع الأقطاب المسيحيين الذين افترقوا بين فريقين في قوى 14 آذار المناهضة لسوريا وإيران، وقوى 8 آذار المدعومة من الدولتين الإقليميتين في بكركي، للبحث في قانون جديد للانتخابات يكون الأصلح من وجهة النظر المسيحية المارونية للانتخابات النيابية التي كان من المزمع إجراؤها عام 2013، والعمل على تذليل الخلافات بين مختلف الفرقاء السياسيين في لبنان.
ورغم أن الأقطاب المسيحيين اجتمعوا مرات عديدة في بكركي برعاية الراعي، إلا أن الإنجاز الأكبر للبطريرك الماروني كان في العام الماضي حين نجح بعد جهود مضنية في جمع القطبين المارونيين رئيس تيار المردة الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية برئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، منهياً بذلك الخلاف العميق الذي نشب بين الفريقين منذ العام 1978، تاريخ اغتيال والد فرنجية الوزير والنائب السابق طوني وعائلته على يد مسلحين من حزب الكتائب في حينها بقيادة سمير جعجع.
أصدر الطرفان، وقتها، بيانا تحت اسم “وثيقة بكركي – القوات اللبنانية وتيار المردة” أكّدا فيه أن التلاقي بين المسيحيين والابتعاد عن منطق الإلغاء يشكلان عامل قوة للبنان والتنوع والعيش المشترك فيه، وأن زمن العداوات والخصومات بين القوات اللبنانية والمردة قد ولّى وجاء زمن التفاهم والحوار وطيّ صفحة أليمة والاتعاظ من دروس الماضي وأخطائه وخطاياه منعا لتكرارها، أملا بغدِ الرجاء والتفاهم.
تعددت اللقاءات التي جمعت البطريرك الراعي بقيادات من “حزب الله” وهو الذي اتسمت مواقفه من الحزب المسلح الوحيد في لبنان “بالاعتدال”، حيث كان أعلن خلال زيارة إلى فرنسا أن “حزب الله يقول إنه سيبقى مسلحا طالما هناك احتلال إسرائيلي”، فدعا الحكومة الفرنسية والمجتمع الدولي إعادة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا المحتلّة “لنزع الذريعة من يد حزب الله”.
لم تنزل هذه التصريحات بردا وسلاما على قوى 14 آذار، لكنها بالمقابل لقيت ترحيبا في أوساط قوى 8 آذار، ورغم أن البطريرك أراد انتهاج الوسطية بين الفريقين المتخاصمين في لبنان، فقد أثارت تصريحاته ردود فعل سلبية عربية ودولية.
تصريحات البطريرك بخصوص حزب الله تعتبر الشق الأول من مواقفه التي تثير جدلا عادة، أما الشق الثاني فكان يعبر عن تخوّفه من أنه في حال وصلت إلى حكم سوريا جماعات متطرفة، أن يؤدي ذلك إلى تهجير مسيحيي سوريا إضافة إلى الانعكاسات السلبية على مسيحيي لبنان، ويقول إن “العراق يمثل مثالا ناصعا عما حدث”.
غير أن الراعي يوضح في هذا الخصوص أنه يؤيد الإصلاح ويدعو الحكومة السورية إلى القيام به مسرعة، ويقول “لسنا مع أي نظام أو ضد أي نظام ولا ندعم أي نظام”، كما يشدّد على “إننا أبرزنا مخاوفنا من ثلاثة أمور؛ هي الانتقال من الأنظمة القائمة التي تتصف بالدكتاتورية إلى أنظمة متشددة، وتاليا فإن الخوف هو من الاختيار بين السيء والأسوأ، كما نخشى أن نصل إلى حرب أهلية، لأن مجتمعاتنا مؤلفة من طوائف ومذاهب، ولا يمكن أن ننسى احتمالات التقسيم إلى دويلات مذهبية يذهب ضحيتها المسيحيون أيضا”.
وفي جميع الأحوال، فإن رأس الكنيسة المارونية في لبنان الذي يخشى على الوجود المسيحي في المشرق العربي ككل، وفي لبنان تحديدا، يبقى رجل دين لا تغيب السياسة عن مواقفه، وهي عادة منتشرة في لبنان يجب أن تبدأ بالانحسار تدريجيا لكي تصل في نهاية الأمر إلى الاهتمام بالشؤون “الرعوية” دون سواها، وما يجب أن ينسحب على البطريرك يجب أن ينسحب أيضا على المفتين والمرجعيات ومشايخ العقل، وأن تُترك الأمور السياسية إلى أربابها.