بريطانيا.. مشوار الألف ميل

موافقة البرلمان البريطاني على خطة رئيس الوزراء بوريس جونسون هي الخطوة الأولى في رحلة الخروج الطويلة.
الثلاثاء 2019/12/17
طلاق صعب لزواج استمر عقودا طويلة

فوز المحافظين في الانتخابات البريطانية الأخيرة بأكثرية لم يعرفها الحزب منذ ثلاثة عقود يضع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي على بداية الطريق وليس في نهايته. بتعبير آخر، هذا الفوز هو بداية تنفيذ الخروج الذي قرره البريطانيون في الاستفتاء المصيري عام 2016.

بداية متأخرة للتنفيذ ولكنها جاءت أخيراً، ليبدأ مشوار الألف ميل في طلاق صعب لزواج استمر عقودا طويلة. لم يكن زواجاً سعيداً في جميع محطاته، ولكنه خلق من التشعّبات والارتباطات بين الطرفين ما يصعب حلحلته بوقت قصير، ليس اقتصاديا فقط وإنما في كافة مجالات الحياة.

موافقة البرلمان البريطاني على خطة رئيس الوزراء بوريس جونسون هي الخطوة الأولى في رحلة الخروج الطويلة. من هناك سيبدأ العمل الشاق على صياغة علاقة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي من جهة، وعلى رسم محددات المملكة بعد استقلالها عن الاتحاد من جهة ثانية.

لن تكون مهمة سهلة بالنسبة لبوريس جونسون والبريطانيين عموما. هكذا وصف الأوروبيون المسألة رغم انفتاحهم عليها. لم يضعوا شروطا مسبقة في المفاوضات المقبلة مع لندن، ولكنهم قالوا إن المفاوضات ستخوض في تفاصيل كثيرة. والشيطان يكمن في التفاصيل.

كيف تبقى المملكة المتحدة دولة موحدة تحتل المرتبة الخامسة عالميا باقتصادها؟ هذا هو السؤال الذي تحتاج حكومة المحافظين للإجابة عليه. فالحفاظ على هذه الصيغة قبل التفكير بأفضل منها، لا يعني اتفاق لندن وبروكسل فقط، وإنما يعني تفاهم لندن مع إدنبرة وبلفاست أيضاً.

قد تنجز اتفاقيات طلاق لندن وبروكسل خلال عام واحد. وقد تحتاج إلى عامين لتنجز جميعها. لن يمانع أحد الاستفاضة في التفاوض سعياً نحو أفضل الصيغ

هي معادلة صعبة منذ اللحظة الأولى لقرار الخروج عام 2016. ولكنها لم تعد مستحيلة بعد أن أصبح للمحافظين أكثرية ساحقة في البرلمان تجعل المؤسستين التشريعية والتنفيذية تتكاملان وتتكاتفان، بدل أن تتحاربا. فالعمل المشترك لهما مع المؤسسة القضائية هو أساس النجاح.

إذا فهم المحافظون أكثريتهم النيابية بغير هذا السياق، فهم يرتكبون خطأ جسيماً لن يغفره البريطانيون أبداً. لهم في الانتخابات الأخيرة عظة كيف يعاقب الناخبون الساسة والأحزاب الذين يحاولون تجاهلهم ومخالفة مشيئتهم. لقد رأوا بأعينهم ماذا حل بحزب العمال وزعيمة الليبراليين.

الخطاب الذي ألقاه جونسون أمام المحافظين شمال إسكتلندا مؤخراً، يكشف إدراكه للتحديات التي تواجهه. في سيدجفيلد، الدائرة الانتخابية التي خرج منها رئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير، قال جونسون إنه لن يسمح بتفكك المملكة ولن يكون الخروج إنجاز حكومته الوحيد.

يعرف جونسون أن تنفيذ الخروج وحده لن يكون كافياً لكسب أصوات الناخبين بعد خمس سنوات. فقد ضاق البريطانيون ذرعا بالعديد من المشكلات المرتبطة بأمنهم وقوت يومهم وصحتهم وتعليمهم، ويتحمل مسؤوليتها المحافظون، أو على الأقل تفاقمت في عهودهم منذ 2010.

لا يمكن أن تدور المفاوضات بين لندن وبروكسل بمعزل عن كل المشكلات التي تعاني منها المملكة المتحدة. لا يمكن أن تتجاهل هذه المفاوضات القلق من انفصال الإسكتلنديين والأيرلنديين. ولا يمكن أن تغمض عينيها عن الفقر المتمدّد في البلاد، أو التراجع في الخدمات الصحية، وكذلك الخوف من تكاثر العمليات الإرهابية بسبب الاقتطاع من ميزانية الشرطة والأمن.

يعرف الأوربيون جيداً حجم الأعباء التي يحملها جونسون على كاهله وهو قادم للتفاوض معهم. تماماً كما يعرفون نقاط قوته وأوراقه الرابحة التي سيضعها على طاولة المفاوضات، وفي مقدمتها الأكثرية النيابية القادرة على تمرير أي اتفاق يبرمه مع بروكسل تحت قبة البرلمان البريطاني.

لن تكون مهمة سهلة بالنسبة لبوريس جونسون والبريطانيين عموما. هكذا وصف الأوروبيون المسألة رغم انفتاحهم عليها

يخشى الأوروبيون خسارة بريطانيا كما يخشون نجاح استقلالها عن الاتحاد. دولة بقوة المملكة المتحدة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية، يصعب التخلي عنها ويصعب أيضا رؤيتها تكبر وتزداد نفوذا، فتتحول بعد قليل إلى منافسة شرسة لقادة التكتل وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا.

ليس من قبيل الصدفة أن تكون المملكة المتحدة خامس أكبر اقتصاد حول العالم، ولا أن تساهم بأكثر من عشرة بالمئة من ميزانية حلف شمال الأطلسي. كذلك أن تبدي العديد من دول العالم وتكتلاته استعدادها لإبرام اتفاقية تجارة حرة معها، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

يحتاج الأوروبيون إلى الاتفاق مع البريطانيين حول الأمن والتجارة والهجرة وكل شيء، ويحتاج البريطانيون إلى هذه الاتفاقات بنفس القدر إن لم يكن أكثر. هذه الاتفاقات هي التي ستمنع استقلال إسكتلندا أو أيرلندا الشمالية، وهي التي ستحافظ على العمق الأوروبي للندن دون وصاية أو تبعية.

قد تنجز اتفاقيات طلاق لندن وبروكسل خلال عام واحد. وقد تحتاج إلى عامين لتنجز جميعها. لن يمانع أحد الاستفاضة في التفاوض سعياً نحو أفضل الصيغ. ومهما كانت الطريق إلى النهاية شاقة ووعرة، فلن يمل الطرفان مشوار الألف ميل الذي يترقب الجميع خطوته الأولى قريباً.

6