بريطانيا ستتراجع عن الانفصال إذا تعسر مخاض البريكست

الجمعة 2017/03/31

بدأ البريطانيون أخيرا في التحديق في تفاصيل ثمن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بعد أن أطلقت لندن إجراءات الطلاق رسميا يوم الأربعاء الماضي. وبدأت الحقائق تتكشف لتفجر أوهام معسكر الانفصال.

خلال يومين فقط تبخّرت الوعود الكبيرة وظهرت الصعوبات التي لا تهدد الاقتصاد البريطاني فقط، بل يمكن أن تعصف بكيان المملكة المتحدة بعد أن لاحت بوادر انفصال إيرلندا الشمالية حتى قبل انفصال أسكتلندا.

كما أقر صقور البريكست بأن الهجرة إلى بريطانيا قد ترتفع بدل أن تنخفض بعد البريكست، رغم أنها كانت المحرك الأساسي لتصويت الهامشيين والانعزاليين لصالح الانفصال في 23 يونيو الماضي.

فقد أظهرت وثيقة مسرّبة نشرتها صحيفة التايمز البريطانية أن وزير شؤون البريكست ديفيد ديفز كتب فيها أن سكان إيرلندا الشمالية إذا صوتوا في استفتاء لصالح الانفصال عن المملكة المتحدة فسوف يمكنهم الالتحاق بجمهورية إيرلندا والبقاء في الاتحاد الأوروبي.

جميع المؤشرات تؤكد اليوم أن إيرلندا الشمالية أصبحت أقرب إلى الانفصال من أسكتلندا. لأن الكاثوليك، الذين يشكلون 45 بالمئة من السكان هم من الأساس ضد البقاء في بريطانيا، ولن يحتاج الأمر سوى إلى 5 بالمئة من البروتستانت المتحمسين للبقاء في الاتحاد الأوروبي لحدوث الانقلاب في الرأي العام.

كما صوّت نواب برلمان أسكتلندا قبل يوم من تفعيل المادة 50 من ميثاق الاتحاد الأوروبي وإطلاق إجراءات الانفصال، لصالح إجراء استفتاء ثان لتقرير مصير أسكتلندا. ويؤكد المختصون بل وبعض صقور البريكست في الحكومة البريطانية بأنه لا يمكن في نهاية المطاف منع أسكتلندا من إجراء الاستفتاء الذي سيجعل انفصالها مؤكدا.

وقد يتبع انفصال أسكتلندا وإيرلندا الشمالية تململ ويلز والمطالبة بالانفصال أيضا، لتبقى لندن عاصمة لإنكلترا فقط، لأن الحياة في جبل طارق ستتوقف إذا تم قطع اتصالاتها مع إسبانيا.

عدد المتمسكين بالحفاظ على حرية دخول السوق الأوروبية بدأ يتزايد يوما بعد يوم في داخل معسكر الانفصال، وهو ما ترفضه أوروبا رفضا قاطعا إلا إذا اقترن ببقاء حرية انتقال الأشخاص.

من الواضح أن زعماء دول الاتحاد لن يتزحزحوا عن مواقفهم ولن يقدّموا لبريطانيا أية تنازلات، حتى لو كان ذلك يضر بالاقتصاد الأوروبي، وستكون بروكسل مجبرة على معاقبة لندن لكي تكون عبرة لجميع الانفصاليين في بلدان الاتحاد الأخرى.

تدرك بروكسل تماما أن خروج بريطانيا بيسر وسهولة دون التعرض لكارثة اقتصادية، سيؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، بل وتمتد آثاره إلى جميع الاقتصاد العالمي.

في هذه الأثناء بدأت المصارف والشركات العالمية بإعلان خططها لنقل الكثير من نشاطاتها إلى أوروبا تحسبا لفقدان جواز دخول السوق الموحدة وهو ما يعني على الأقل فقدان جوهرة الاقتصاد البريطاني المتمثلة في أكبر مركز مالي في العالم وأكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

لم يكن بإمكان أي رئيس لحكومة بريطانيا مهما كان معارضا للبريكست أن يقوم إلا بما قامت به رئيسة الوزراء تريزا ماي، بسبب استحالة إقناع أنصار الانفصال بعواقبه الوخيمة إلا إذا لمسوها على أرض الواقع.

الانقلاب على نتائج الاستفتاء استنادا إلى العواقب المتوقعة قبل حدوثها، كان يمكن أن يؤدي إلى انقسام واضطرابات هائلة في الشارع البريطاني وقد تؤدي لانهيار البلاد. إذ لا يمكن إخبار فريق فائز بإلغاء النتيجة دون مبررات ملموسة.

لذلك كان طلب الطلاق حتميا لكي تتكشف بعد ذلك العواقب الملموسة وتتفاعل في الشارع لحين حدوث انقلاب في الرأي العام بعد أن تصل عواقب الانفصال إلى حياتهم وجيوبهم.

الآن فقط بدأ الصراع لتحديد مستقبل بريطانيا، التي لا يمكن استبعاد تراجعها وبقائها في الاتحاد الأوروبي، حين تكتشف تفاصيل الثمن الباهظ الذي عليها أن تدفعه في مخاض الانفصال المؤلم.

بدأت يوم الأربعاء رحلة معرفة الثمن الحقيقي للبريكست وتمييز الأوهام من الحقائق وسوف ستتبلور خطط انفصال أسكتلندا وإيرلندا الشمالية وستعلن آلاف الشركات عن تفاصيل خططها الاستثمارية في بريطانيا.

وقد بدأت المصارف مثل أتش.أس.بي.سي وغولدمان ساكس وجيه.بي مورغن وباركليز ويو.بي.أس بإعلان خطط نقل الوظائف إلى داخل الاتحاد الأوروبي، وسوف تتسع تفاصيل هجرتها عن بريطانيا خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

موت حي المال المتوقع سيؤدي حتما إلى أزمة اقتصادية طاحنة في لندن، من بين أوجهها، خلو ما قد يصل إلى مليون وحدة عقارية من المكاتب والوحدات السكنية، لتتحول أحياء بكاملها إلى مدن أشباح، وسيتبع ذلك حتما انهيار غير مسبوق في أسعار العقارات.

كما سيكون لإعلان خطط الشركات في الأشهر المقبلة تداعيات كبيرة على النشاط الاقتصادي ومستويات البطالة وسعر صرف الجنيه الاسترليني، وبالتالي على حماس مؤيدي الانفصال.

ستتبلور تدريجيا جميع تلك الملفات وتلقي بثقلها على الرأي العام البريطاني، الذي من المرجّح أن يشهد تغييرات كبيرة، قد تسمح في نهاية العام الحالي، لأعضاء البرلمان المؤيدين بأغلبية ساحقة للبقاء في الاتحاد الأوروبي بالتحرش بملف التراجع عن نتائج الاستفتاء.

وستبلغ تقلبات الرأي العام ذروتها حين تقترب بريطانيا من التفكك وينخفض الجنيه الاسترليني ويرتفع التضخم وتبرز ملامح انهيار مؤكد في القطاع العقاري وتتكشف خطط المصانع والشركات للانتقال من بريطانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي.

حينها فقط سيحدث انقلاب في الرأي العام ويندم الكثيرون على التصويت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي وتتعالى أصوات المطالبين بإجراء استفتاء ثان قد تكـون نتيجته محسومة لصـالح الخائفين من عواقـب الانفصال التي أصبحت ملمـوسة.

ستذهب بعد ذلك مؤسسات الأبحاث لإجراء استطلاعات لآراء سكان المناطق التي صوتت بأغلبية كبيرة لصالح الانفصال، لمعرفة آرائهم بعد أن مستهم نيران آلام الطلاق عن السوق الأوروبية.

لا تملك تريزا ماي التي حلت بالصدفة في مقعد رئاسة الوزراء تفويضا شعبيا كافيا لتقرر إكمال إجراءات الطلاق إذا اتضح ثمنه الباهظ. وقد تكون بريطانيا مجبرة على إجراء انتخابات عامة مبكرة تكون بمثابة استفتاء ثان مبطن لتقرير مصير البلاد.

وستحدد الأحزاب البريطانية موقفها من البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي بوضوح لأن الانتخابات ستكون استفتاء جديدا غير مباشر على البريكست.

وسيحدث انقلاب غير مسبوق في ولاءات تصويت البريطانيين للأحزاب، مثلما حدث في مقاطعة ريتشموند غرب لندن التي يشكل أنصار حزب المحافظين الأغلبية الساحقة من سكانها، لكنهم صوّتوا للحزب الليبرالي الديمقراطي في الانتخابات الفرعية في أكتوبر الماضي لأنه مؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي فقط.

وقد تغيّر جميع الأحزاب مواقفها وينشطر بعضها أو تظهر أحزاب جديدة وفقا لتوقعات موقف البريطانيين من البريكست.

كاتب عراقي

11