بريطانيا.. تخسر الاتحاد الأوروبي وحظوتها الدولية
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يأتي ليكون بمثابة تكملة لتراجع الإمبراطورية التي كانت ممتدة في كافة أرجاء العالم وتنحدر إلى عالم الأموات الاستراتيجي خلف القوى العظمى، حتى أنها هبطت إلى رابطة الأمم التي تدعى إلى الاجتماعات الدولية بداعي اللباقة لا غير.
بريطانيا لن تكون بعد أن قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي سويسرا أو سنغافورة العملاقة، فهذان البلدان أعلى مرتبة من المملكة المتحدة في القدرة التنافسية والابتكار. وعلاوة على ذلك ليستا في الواقع الجزيرتين السعيدتين المحررتين من القيود التنظيمية مثلما يتم تصويرهما بما أن سويسرا تربطها التزامات معمقة نابعة من المعاهدات التي عقدتها وروابط اقتصادية عبر أوروبا حتى بعد أن تراجعت عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب الخلاف نفسه حول مسألة الهجرة التي أشعلت حمّى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
من جهتها تعتبر سنغافورة البطل الجديد في جمعية أمم جنوب شرق آسيا، وتتزعم كتلة جنوب شرق آسيا التي تطمح إلى أن تصبح اتحادا أوروبيا آسيويا. فهذا البلد يدفع الاستثمار في منطقته ويستفيد منه بدلا من الهروب منها.
ونظرا لأن زعيمتي منطقة اليورو فرنسا وألمانيا بدأتا في السخرية من بريطانيا وتهديدها بسبب الخلافات التي ستترتب بعد قرار الخروج من الاتحاد بالنسبة إلى المشاريع البريطانية على الأراضي الأوروبية، فإن حظوظ المملكة المتحدة في قيادة أوروبا من خارج الكتلة ستصبح ضئيلة جدا.
وفي ذات الوقت من المستبعد أن تعوّل بريطانيا على زعامتها لمجموعة الكومنولث التي لم تعد متماسكة إذ لا تملك بريطانيا أيّ هيمنة على زمبابوي وكينيا صعبتي المراس، وليس لديها غير القليل من النفوذ على دخول وخروج المواطنين البريطانيين من أصول باكستانية. كما حيدت كذلك حشودا من الهنود عن طريق قيود ثقيلة تصحب التأشيرات السياحية.
وفي الفترة الأخيرة وجهت بريطانيا اهتمامها إلى الصين فجلبت المليارات من الجنيهات إلى بنوكها والعقارات والتداول باليوان في أسواق لندن المالية النابضة بالحياة.
وبالتأكيد تحتاج بريطانيا للانفتاح التنظيمي لجذب رأس المال إلى بنيتها التحتية وقاعدتها الصناعية، لكن إذا لم تعد بريطانيا تساعد الصين في تحويل الأموال إلى ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من البلدان الأوروبية الكبرى، فإن أقصى ما ستحصل عليه هو ادخار المستثمرين الصينيين النقود في عقارات مهلهلة مثلما يفعلون عبر برنامج إ. ب5 الأميركي.
وعلى المدى البعيد ستكون الممتلكات الأوروبية الجنوبية أرخص وتحظى بدعم السيولة الأوروبية طويلة المدى. وقد تواصل بريطانيا الاحتفاظ بموقعها كوجهة استثمار أجنبي أساسية، لكن تعويذة بوريس جونسون التي تردد كثيرا بأن بريطانيا عندما تكون غير مقيدة يمكنها التفاوض حول الاتفاقيات التجارية “بمرونة أكبر” أصدق مما يدرك، إذ أن القوى الأكبر ستجبر بريطانيا على الخضوع مرة تلو الأخرى. وحاول أن تتخيل لندن تتحدى بكين في نزاع يتعلق بمنظمة التجارة العالمية بالشكل الذي تقوم به واشنطن أو بروكسل. في التجارة ليس من الحكمة أبدا المراهنة على داود ضد جالوت.
وقارن بوريس بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي بكندا التي لديها اتفاقيات تجارة حرة دولية لكنها تضبط سياسة الهجرة لديها. لكن وجه الشبه ينتهي عند ذلك الحد طبعا، فكندا تستقبل قدرا من الاستثمار الأجنبي المباشر للفرد أكبر بكثير من المملكة المتحدة، وهي منفتحة بشكل حقيقي على الهجرة، ولديها معاملات تجارية نشطة واستثمارات مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم على حدودها الجنوبية.
فضلا عن ذلك تدفع أوتاوا إلى تشييد جسر ثان بين ويندسور ودترويت، وفي المقابل يرمز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التخلص من روابط اقتصادية لا شائبة فيها مع الكتلة الاقتصادية الوحيدة الأكبر من أميركا، أي منطقة اليورو.
وبالتأكيد هناك نفحة من الانتصارية البريطانية تحرّك الموقف الداعم للخروج من الاتحاد الأوروبي، ففي النهاية تنتمي لندن إلى مضمار النخبة الشبيه بسباق فورميلا واحد للمدن العالمية التي تتعاون بنفس قدر تنافسها، حيث تنصهر البورصات وتتدفق المواهب في ما بينها بسلاسة.
قد تبقى لندن المدينة الأولى في عالم الأموال، لكن سيستمر باقي بريطانيا في الأفول. وانتقال العضوية الذي لا تتبعه عملية تجميع الولاءات وبناء التماسك، قد يفتح الطريق أمام احتمالات مزعجة في المستقبل. وهنا أذكر حضور عشاء في سنة 2012 مليء بشبان جريئين وطموحين يرددون “الأمر محسوم: يجب أن تنفصل لندن عن المملكة المتحدة”.
خبير استراتيجي أميركي
*عن مركز ستراتفور