بريطانيا تخرج قطار التاريخ عن مساره
رغم كل التحذيرات والتهديدات التي تدفقت من جميع قادة العالم والمؤسسات المالية ومعظم المؤثرين في الاقتصاد العالمي، قرر الغاضبون والهامشيون والعاطلون عن العمل والانعزاليون والعنصريون وجمع غفير من الذين يجهلون مصالحهم الاقتصادية أن يقذفوا العالم في نفق طويل مظلم.
العالم اليوم أصبح أكثر خطورة ويختلف تماما عن عالم الأمس. لقد تم إخراج قطار التاريخ عن مساره إلى الأبد. إشعال عود ثقاب ليس بالأمر الخطير، لكنه يمكن أن يشعل حريقا هائلا!
الخطورة لا تكمن في ما يمكن أن يحدث في بريطانيا، بل في تبعات نتائج الاستفتاء على مستقبل أوروبا، وكيف سيتعامل قادتها وشعوبها مع صدمة تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي.
قادة الاتحاد الأوروبي لن يستطيعوا النوم إلى حين بلورة طريقة للتعامل مع الحريق الذي أشعله البريطانيون في ثيابهم، وستمر عدة أيام ليتأكدوا أن هذا الكابوس حقيقة وينبغي التعامل معه لتقليص الخسائر بأقصى درجة ممكنة.
وجود بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي يمكن (في وضع آخر غير الذي حدث) أن لا يغير شيئا في المعادلة العالمية! ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يتعامل معها مثلما يتعامل مع النرويج وسويسرا، لكن الطريقة التي حدث بها يمكن أن تشعل حريقا هائلا يمتد إلى جميع أنحاء العالم.
من السهل أن يتعامل الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا مثلما يتعامل من النرويج، التي تكاد تكون خارج الاتحاد شكليا فقط، بسبب وجود عدد هائل من الاتفاقات المشتركة.
أوروبا ليس من مصلحتها معاقبة بريطانيا لأنها ستفقد أيضا الكثير من المصالح الاقتصادية، لكنها ستكون مجبرة على معاقبتها، لأنها إن لم تفعل فسوف تتفجر المطالبات بالانسحاب في معظم دول الاتحاد الأوروبي وسيؤدي ذلك إلى انهياره الحتمي.
وهذا يفسر مسارعة قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى دعوة بريطانيا إلى بدء آلية الخروج فورا. وتهدف الدعوة إلى تسريع ظهور تداعيات الاستفتاء على الاقتصاد البريطاني في أقرب وقت ممكن، ليتمكنوا من ردع بقية البلدان الأوروبية من التفكير بالخروج.
فور إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني بدأت المطالبات بإجراء استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي في الدنمارك وهولندا وإيطاليا، بل امتدت إلى دول أساسية في الاتحاد مثل فرنسا، حيث طالبت زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف مارين لوبان بإجراء استفتاء في فرنسا للانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
سيبدأ زعماء أوروبا فورا بمراجعة منظومة عمل الاتحاد الأوروبي لتخفيف البيروقراطية والمركزية المفرطة في بروكسل لمنع انفجار الاحتقان الذي سينتشر في أوروبا، ولكبح مطالب الانفصال التي ظهرت في العديد من الدول الأوروبية.
لكنهم إذا أرادوا منع انهيار التكتل الأوروبي، فقد يكونون مجبرين على معاقبة البريطانيين على إشعالهم لهذه النار، من خلال التشدد في شروط الانفصال وربما فرض عقوبات اقتصادية تعرقل التبادل التجاري وحركة الاستثمارات مع بريطانيا.
وقد سبق لعدد من قادة أوروبا أن لوحوا بمعاقبة بريطانيا، وقد كررها مرارا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر.
تلك العقوبات ستضر دول الاتحاد الأوروبي كثيرا، لكنها ستكون أفضل من انهيار الاتحاد ومنطقة اليورو، ودخول الاقتصاد العالمي في ركود وكساد اقتصادي لم يسبق له مثيل.
مجرد التلويح بتلك العقوبات سيؤدي إلى تراجع حاد في سعر صرف الجنيه الإسترليني والأسهم البريطانية. وسوف ينعكس ذلك في ارتفاع التضخم بدرجة كبيرة بفعل زيادة أسعار السلع المستورة، وسيؤدي ذلك حتما إلى ارتفاع كبير في أسعار الفائدة وتكلفة القروض العقارية وصولا إلى انخفاض كبير في أسعار العقارات.
تلك التداعيات انعكست أمس بشكل واضح على أسهم البنوك البريطانية التي فقد معظمها أكثر من 20 بالمئة من قيمته.
إذا ظهر ذلك جليا على الاقتصاد البريطاني، فإنه قد يمنع فوز معسكر الانفصال أي استفتاء يجرى في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، لأن سكان تلك الدول سينظـرون إلى عـواقب تصويت البريطانيين.
هل سيندم البريطانيون حين يبدأون بدفع ذلك الثمن الباهظ، وهـل ستظهر حركة جديدة تدعوا إلى إجراء استفتاء جديد، للعـودة إلى أحضـان أوروبا؟
من الطرائف المرة أن 38 بالمئة من الاسكتلنديين صوتوا لخروج بريطانيا، رغم أنه من المعروف أن الأغلبية الساحقة من الاسكتلنديين يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ويعني ذلك أن أكثر من مليون ناخب من القوميين الاسكتلنديين صوتوا بعكس ما يريدون، لأنهم أرادوا أن تخرج بريطانيا لكي ينظموا استفتاء جديدا للانفصال عن بريطانيا والمسارعة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
السيناريو المرجح الذي أعلنه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عن إعلان استقالته أمس، يؤكد أن الأمور ستبقى على حالها لفترة طويلة، لأن إجراءات الانفصال قد تستغرق عامين. وأشار إلى أن أوضاع الأوروبيين في بريطانيا وكذلك أوضاع البريطانيين في أوروبا ستبقى على حالها في المنظور القريب.
لكن ذلك سيؤدي لاتساع الاحتقان الذي حصل في بريطانيا في الأسابيع والأشهر المقبلة وخاصة في ما يتعلق بالمهاجرين، لأن العدد الهائل من الذين صوتوا للخروج، سينتظرون تحقيق الأوهام التي راودتهم، وستضيق صدورهم من طول الانتظار.
وستنتقل عدوى ذلك الاحتقان إلى معسكرات اليمين المتطرف في جميع الدول الأوروبية وسيكون الأجانب واللاجئون من أكبر ضحايا الاستفتاء البريطاني، وسينعكس ذلك على النشاط السياحي وحركة السفر، التي أصبحت تمثل ركنا أساسيا في النشاط الاقتصادي للكثير من الدول.
طبيعة الاقتصاد العالمي، الذي أصبح مثل الأواني المستطرقة في ظل تسارع وسائل الاتصال وتداخل الأسواق والاستثمارات، أفقدته القدرة على تحمل الصدمات الكبيرة لأن تداعياتها أصبحت تنتقل بسرعة إلى جميع أنحاء العالم.
إذا كان الاقتصاد العالمي يعاني منذ فترة من مجرد تباطؤ بسيط في الاقتصاد الصيني، فكيف سيتحمل صدمة خروج بريطانيا التي يمكن أن تؤدي إلى سناريوهات كارثية.
أنظار العالم ستتجه الآن إلى الاتحاد الأوروبي لمعرفة حجم التأثيرات السلبية التي ستنتقل إليه، والطريقة التي سيتعامل بها قادته لمنع الاتحاد الأوروبي من الانهيار.