برهم صالح يروّج إلى عقد سياسي واجتماعي جديد في ذكرى مئوية العراق

طرح الرئيس برهم صالح أشبه ما يكون بخارطة طريق لاستعادة عافية العراق، من ذلك الاتفاق على عقد سياسي واجتماعي جديد يعالج الخلل البنيوي في منظومة الحكم الحالية، ويكافح الفساد، مشددا على أهمية إقرار تعديلات دستورية لبنود أثبتت الممارسة السياسية مسؤوليتها عن أزمات مستفحلة تقف عائقا أمام تطور المسار السياسي بالبلاد.
بغداد - دعا الرئيس برهم صالح بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس دولة العراق الحديثة إلى عقد سياسي واجتماعي جديد يُشارك في صياغته الرأي العام الوطني بجميع فعالياته، ويستند على مُراجعة موضوعية لأخطاء وتجارب الماضي.
وتطرق الرئيس صالح في مقال نشرته صحيفة “الصباح” الحكومية إلى المراحل التي أعقبت تأسيس العراق منذ العام 1921 وحتى العام 2021 والتي حفلت بمنعطفات تاريخية، شكلت وجه العراق الحالي المليء بالتصدعات والانقسامات الطائفية والمذهبية.
وكانت المراحل التأسيسية للدولة العراقية شهدت بواكير الحركة الوطنية، وأسس التنمية الاقتصادية والإدارة والحراك السياسي المدني وتطوير نُظم الصحة والتعليم والثقافة والمساواة بين العراقيين بتنوع أطيافهم، ومنح المرأة دورا رياديا في الحياة العامة، جعلت البلاد في طليعة دول المنطقة ومركزا للإبداع الفكري والحضاري.
لكن هذه الإنجازات تعرضت في المراحل اللاحقة إلى انتكاسات، من حروب واضطهاد وحصار وصولا إلى استباحة الإرهاب للمدن العراقية، عصفت بالشعب العراقي.
الشروع في التأسيس لعقد جديد ليس مطلبا ترفيا، بل ضرورة حتمية، تشارك في صياغته الفعاليات السياسية والاجتماعية
واعتبر صالح أن تلك الانتكاسات هي نتاج انحرافات خطيرة في تاريخ العراق الحديث، تمثلت في الزج بالجيش في السياسة والانقلابات والدساتير المؤقتة وممارسات التمييز والقمع وحملات الإبادة والأنفال والمقابر الجماعية واستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة وتجفيف الأهوار.
وشدد على أن أكبر الدروس المُستقاة من مئوية الدولة العراقية هو الحاجة المُلّحة للحكم الرشيد، فرغم موارد البلد الطبيعية الغنية وطاقاته البشرية وموقعه الجغرافي في قلب المنطقة، لم يجلب كل ذلك السلام الدائم والعيش الرغيد لمواطنيه.
ولفت الرئيس العراقي إلى أنه وعلى أعتاب استحقاق وطني مهم بتشكيل حكومة جديدة بات من الضروري الانطلاق نحو عقد سياسي واجتماعي جديد ضامن للسلم الأهلي، ترسيخا للحكم الرشيد، يقوم على مُراجعة موضوعية لأخطاء وتجارب الماضي.
ويتزامن الاحتفال بمئوية الدولة العراقية مع أزمة سياسية خانقة تعيش على وقعها البلاد بسبب الانقسام الدائر حول نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في أكتوبر الماضي وأفرزت تغيرات في موازين القوى لاسيما داخل المكون الشيعي، وسط غياب مؤشرات عن إمكانية التوصل قريبا إلى توافقات في ما يتعلق بتشكيل الحكومة.
ولطالما واجهت عمليات تشكيل الحكومات في عراق ما بعد 2003، صعوبات في ظل صراع على الحصص والمغانم الحكومية بين القوى السياسية، ويعتقد أن الأمر سيكون أعقد بالنسبة إلى تشكيل الحكومة المقبلة في ظل وجود عقد إضافية من بينها الخلاف على شكل الحكومة، حيث هناك موقفان متضادان: الأول يطالب بحكومة أغلبية والثاني يصرّ على حكومة محاصصة.
واعتبر الرئيس برهم صالح أن الشروع في التأسيس لعقد جديد ليس مطلبا ترفيا، بل ضرورة حتمية، يُشارك في صياغته الرأي العام الوطني بفعالياته السياسية والاجتماعية، فالمسؤولية التاريخية والوطنية والظرف الراهن الدقيق يقتضيان العمل الجاد على إنهاء دوامة الأزمات. وفي نهاية المطاف لا الشيعة، ولا الأكراد، ولا السنّة، ولا باقي المكونات راضون عن الوضع الراهن، ويُقرّون باستحالة استمراره.
وأوضح بأن أحد أكبر تحديات الحكم الرشيد، هو الخلل البنيوي في منظومة الحكم بعد العام 2003، لأنها لا تفي بمتطلبات العراقيين، ولا جدال في حاجتها إلى إصلاح حقيقي وجذري، ما تحقق بعد العام 2003 لا يمكن الاستخفاف به، حيث تعاقبت عليه ست حكومات وخمسُ مجالس نيابية بشكل سلمي.
وقال إن ترسيخ الحكم الرشيد، يبدأ باستعادة ثقة الشعب في النظام السياسي، وإنهاء التجاوز على الدولة وإضعافها واختراقها وانتهاك سيادتها، مضيفا لقد “خرجنا للتوّ من عملية انتخابية مُبكّرة استجابة لحراك شعبي وإجماع وطني على الحاجة إلى إصلاحات جذرية، ونتوقع استكمال الإجراءات القانونية للانتخابات والانطلاق نحو الاستحقاقات الدستورية بتشكيل الحكومة الجديدة”.
وإلى جانب الخلل البنيوي في منظومة الحكم في العراق لفت برهم صالح إلى ظاهرة الفساد الخطيرة، التي تمثل هي الأخرى عائقا أمام الحكم الرشيد، فهذه الآفة الخطيرة مُرتبطة ارتباطا وثيقا بالعنف والإرهاب وتغذية الانقسامات وتهديد السلم المجتمعي والتأثير على تكافؤ الفرص للعراقيين.
ويفرضُ تحدّي الفساد وقفة جادة وحاسمة مُشتركة، من مؤسسات رسمية وفعاليات اجتماعية ومدنية، فهي معركة لن يصلح وضع البلد دون الانتصار فيها، تقومُ على ضرب منابع الفساد واسترداد ما تم نهبه وتهريبه.
وشهد العراق خلال السنوات الأخيرة تحركات احتجاجية ردا على تفشي مظاهر الفساد والمحسوبية بلغت ذروتها في أكتوبر 2019، وليس من المستبعد وفق مراقبين عودة زخم الاحتجاجات في غياب أي إرادة سياسية لمحاربة هذه الظاهرة.
وتسود قناعة بأنه طالما استمرت منظومة الحكم الحالية والتدخلات الأجنبية فإنه لا مجال لإصلاح حقيقي في العراق، سواء في ما يتعلق بمحاربة الفساد، أو في تحقيق دولة المواطنة التي تتعالى عن العصبيات السياسية والطائفية السائدة.
الرئيس برهم صالح يدعو بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس دولة العراق الحديثة إلى عقد سياسي واجتماعي جديد يُشارك في صياغته الرأي العام الوطني بجميع فعالياته، ويستند على مُراجعة موضوعية لأخطاء وتجارب الماضي
وشدد برهم صالح في مقاله على أن المرحلة المُقبلة يجب أن تعمل على تعديلات دستورية لبنود أثبتت الممارسة السياسية مسؤوليتها عن أزمات مُستحكِمة تقف عائقا أمام تطور العملية السياسية، كما لا بد من ثورة تشريعات، بما يحفظ الثوابت ويضعنا مواكبين لتطورات العصر، فالتحولات الكبرى التي شهدها البلد بقيت أسيرة منظومة قانونية لم تواكب التطورات السياسية والاجتماعية، كقانون العقوبات.
واعتبر أن التحدي الآخر الذي يواجه العراق هو تحقيق التحول الاقتصادي، فمن الخطير استمرار الاقتصاد الريعي غير المُستدام المُعتمد على النفط بأكثر من 90 في المئة، إذ أن تنامي مؤشرات تراجع الطلب على النفط وتحول العالم إلى الطاقة النظيفة سينسحب على تراجع إيرادات اقتصاد العراق المالية عاجلا أم آجلا.
وأشار إلى أن أحد المآخذ على تاريخ العراق المُعاصر، عدم استفادته من موقعه الجغرافي في قلب المنطقة، حيث انسحبت أزماته الداخلية نحو تأزيم المنطقة بحروب ونزاعات عبثية مع الجيران، وأدت إلى انهيار المنظومة الإقليمية لتحل محلها الاستقطابات والانقسامات التي لم تجلب السلام المنشود، فالكل بات متضررا ولا فائز فيها.
وشدد على أهمية “تعزيز السياسة الخارجية المرتكزة بالنأي عن سياسة المحاور والصراعات، وبناء علاقات متوازنة مع الجميع، فالعراق الذي كان عنوانا للتنازع يجب أن يكون عنوانا لتلاقي مصالح المنطقة التي من مصلحتها أيضا عودة العراق لدوره المحوري، وإنهاء تنافسات الآخرين على أرضه، فعلى أرض العراق تُحسم التوازنات، وفي بغداد تلتقي الثقافات حيث عاصمة الحضارة ومركز التنوع والتسامح”.
ويرى متابعون أن ما عرضه الرئيس برهم صالح أشبه ما يكون خارطة طريق لاستعادة العراق، مشيرين إلى أن دعوته إلى عقد اجتماعي وسياسي جديد ناتجة عن شعور بعمق الانسداد الحاصل وتأثيراته الخطيرة على وحدة البلاد.
ويستبعد المتابعون أن تلاقي هذه الدعوة تفاعلا من المنظومة السياسية المهيمنة على البلاد والتي ما فتئت تمارس حالة إنكار شديدة، ستنتهي بالبلاد إلى منعطف ربما أخطر ممّا سبقه.