برلين تهزم الجدار وتتعثر بحجارته

بجمالها وإهمالها، بإنسانيتها وصرامتها، مدينة لا تحب من النظرة الأولى.
الأحد 2025/04/27
التنوع الثقافي والعرقي سمة المدينة 

للعواصم والمدن الأوروبية الكبرى سحرها الذي يجعل منها أيقونات يرغب جميع سكان الأرض في زيارتها، وتسكن مخيال جميع الناس، وهذا لا يعود إلى جمال هذه المدن فحسب، بل أيضا إلى ما تختزله من تاريخ وما تمثله من ثقافة الحداثة التي انطلقت منها إلى بقية أرجاء الأرض. وبرلين واحدة من هذه المدن.

في زيارتي الأخيرة إلى برلين أمضيت فيها نحو خمسة أيام، وهذه هي زيارتي الثالثة إلى العاصمة الألمانية خلال السنوات العشر الماضية. وجدتني أتجول في شوارعها بعين أكثر فحصا وتأملا، فقد تغير الكثير، وربما تغيرت أنا أكثر. لم تكن الزيارة عابرة كسابقاتها، بل كانت استرجاعا بصريا وزمنيا، يعيدني إلى مشاهد محفورة في الذاكرة، ويضعني أمام واقع مختلف، أكثر تناقضا مما كنت أتصور. من المثير للحيرة أن تكون برلين، هذه المدينة الأوروبية المحورية، ملاذا للحضارة والحداثة من جهة، ومسرحا واضحا للإهمال من جهة أخرى.

المدهش في برلين ليس فقط عمارتها أو فنونها أو تاريخها الممتد، بل أيضا هذا التداخل العجيب بين البريق والعتمة، بين النظام والاختلال. كنت قد زرتها للمرة الأولى وأنا محمل بصورة نمطية عن العواصم الأوروبية، التي تجمع بين الرقي والنظافة والتنظيم، ولم تخذلني آنذاك، أو هكذا خيل لي. لكن في زيارتي الثالثة، وبعد أن مرت السنون وأثقلتني التجارب، بدأت ألحظ التفاصيل، تلك التي تمر على الناظر العابر دون أن تثير انتباهه.

في هذه الرحلة، صدمتني مشاهد الإهمال في النظافة، ليس في الأحياء الطرفية أو المناطق الأقل حظا، بل في قلب المدينة، وتحديدا في محطة “أوست بانهوف” (Ostbahnhof)، حيث يفترض أن يكون الانطباع الأول عن المدينة. هنا، لا تشم فقط رائحة القطارات، بل رائحة العَجز، وتلمح ملامح الإهمال في الأرصفة، في المرافق العامة، في عيون المتسولين المنتشرين بكثرة، وكأنك تغادر أوروبا فجأة لتدخل إلى عالم مواز من الإنهاك والفوضى.

مفارقة حضارية

برلين اليوم مدينة ضخمة، مترامية، تعاني من أزمة إسكان، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع بعض الخدمات الأساسية

النظافة ليست رفاهية، بل مرآة تعكس مدى احترام المدينة لساكنيها وزوارها. أن ترى هذا التراجع في برلين، يعني أنك أمام مفارقة حضارية. مدينة تحتضن أهم مؤتمرات العالم، وتقود الاقتصاد الأوروبي، لكنها تتعثر أمام مهمة يومية بسيطة كتنظيف الأرصفة أو صيانة إنارة الشوارع. وهنا يبرز البعد الفلسفي للسؤال: كيف يمكن لحضارة أن تتقدم في التقنية وتتعثر في الإنسان؟

هذا التناقض لا يلغي عظمة المدينة، ولا ينقص من ثقلها التاريخي والمعرفي. برلين تبقى مدينة ذات طابع فريد، يصعب الإحاطة به من أول نظرة. فهي مدينة تحمل آثار جدارها الذي انكسر، وشتات شعبها الذي اتحد، وتحولات سياسية صنعتها أقدار الزمان أكثر مما صنعتها الإرادة. لكنها أيضا، مدينة تكافح اليوم للحفاظ على توازنها في ظل تحديات ديموغرافية واقتصادية وثقافية هائلة.

الطريق إلى برلين ليس مجرد رحلة جغرافية. في كل مرة أزورها، أشعر وكأنني أعبر حدودا ثقافية ونفسية أيضا. ثماني ساعات بالسيارة تفصلها عن فيينا، العاصمة النمساوية المتألقة بالنظافة والنظام والهدوء. هناك في فيينا، كل شيء يبدو في مكانه: الأرصفة، الإشارات، الناس، وحتى الهواء. أما في الطريق إلى برلين، فقد تستوقفك الشرطة عند الحدود، تسألك عن وجهتك، تفتش حقائبك، ربما تظن أنك مهرب سجائر من التشيك أو مهاجر غير شرعي. هذه المشاهد ليست مجرد إجراءات أمنية، بل انعكاس لحالة القلق التي باتت تخيم على أوروبا، حيث الهجرة لم تعد قضية إنسانية فقط، بل أصبحت تحديا أمنيا واجتماعيا وسياسيا.

المدهش في برلين ليس فقط عمارتها وفنونها وتاريخها، بل التداخل العجيب بين البريق والعتمة، بين النظام والاختلال

وبرلين، بطبيعتها كمدينة مفتوحة وعاصمة ذات سياسات ليبرالية، تتحمل هذا العبء الثقيل. استقبلت ألمانيا خلال موجة اللجوء الكبرى ما يزيد عن مليون لاجئ، كان نصيب برلين منهم كبيرا. هذا القرار، الذي دافعت عنه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، شكل علامة فارقة في تاريخ البلاد. ورغم رحيلها عن المشهد السياسي، لا تزال بصماتها واضحة في سياسات الاندماج، وفي قلوب من استفادوا من هذه الفرصة الإنسانية.

في شوارع برلين اليوم، ترى وجوها عربية وشرقية في كل زاوية، في المحلات، في الأسواق، في المقاهي. حي “نيوكولن” تحول إلى ما يشبه “شارع العرب”، حيث تصدح اللغة العربية جنبا إلى جنب مع الألمانية، وتنتشر اللافتات بأسماء المطاعم والحلويات الشامية والمكتبات الإسلامية، إلا أنها للأسف بحاجة إلى مراقبة صحية والاهتمام بالنظافة التي تغيب عن أغلبها. هذا التداخل الثقافي لا يخلو من التحديات، لكنه أيضا فرصة نادرة لإعادة تعريف هوية المدينة.

اللافت أن الكثير من اللاجئين استطاعوا أن يغيروا من واقعهم، لا كعبء على الدولة، بل كقوة دافعة لها. أكثر من ستة آلاف طبيب سوري يعملون اليوم في مستشفيات ألمانيا. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل قصص نجاح تروي كيف يمكن للمعاناة أن تتحول إلى طاقة بناءة، وكيف يمكن للغربة أن تصنع مجدا جديدا.

مدينة التاريخ الحي 
مدينة التاريخ الحي 

هذا النجاح، لم يأت من فراغ، بل من نظام اجتماعي ألماني قائم على التعليم والتأهيل والانفتاح. الدولة، رغم كل تعقيداتها، فتحت أبوابها للوافدين، وراهنت على قدرتهم على الاندماج، والكثير منهم لم يخيب الآمال. في المستشفيات والمدارس والجامعات، ترى وجوها عربية ترفع اسم ألمانيا وترد الجميل.

لكن، هل يكفي النجاح الفردي لترميم الصورة العامة؟ يبدو أن التحدي الحقيقي ليس فقط في تمكين اللاجئين، بل أيضا في إعادة صياغة المدينة ككل. برلين اليوم مدينة ضخمة، مترامية، تعاني من أزمة إسكان، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع بعض الخدمات الأساسية. هذا التناقض بين نجاح الأفراد وتعثر المنظومة العامة، يضع المدينة أمام مفترق طرق.

ما يثير التساؤل حقا، هو كيف يمكن لمدينة مثل برلين، بكل إمكاناتها، أن تعيش هذا التراجع في بعض الجوانب الخدمية؟ هل هو نقص في التمويل أم ضعف في التخطيط أم أن التركيز على القضايا الكبرى، مثل السياسة والاقتصاد والهجرة، جعل من التفاصيل اليومية أمرا ثانويا؟

وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ الإهمال في إنارة الشوارع، وتراكم القمامة في بعض المناطق، على أنه مؤشر لانشغال الدولة بالكل، على حساب الجزء. لكن المدن لا تبنى فقط بالسياسات، بل بالحياة اليومية لسكانها، بالشارع الذي نمشي فيه، بالمقعد الذي نجلس عليه، وبالنافذة التي تطل على صباح نظيف.

برلين، بتنوعها، باتت مرآة للعالم. لا تكاد تمر لحظة دون أن تسمع لغة أجنبية، أو ترى سحنة غير ألمانية. المدينة تكتظ بالحياة، بالناس من كل الجنسيات، وتبقى المتاجر مشرعة حتى ساعات الليل المتأخرة. هذه الحيوية اللافتة، تعطي انطباعا بوجود مدينة لا تنام، لكنها، في الوقت ذاته، مدينة مرهقة من الداخل، بحاجة إلى وقفة تأمل.

سقوط الجدار

مدينة تضعك أمام أسئلة كثيرة
مدينة تضعك أمام أسئلة كثيرة

في قلب مدينة برلين، على مدى أكثر من خمسة وثلاثين عاما، امتد جدار لم يكن مجرد بناء إسمنتي يفصل بين شارعين، بل كان فاصلا دمويا بين عالمين، وحاجزا نفسيا وثقافيا وجغرافيا ضرب عميقا في الوعي الأوروبي والعالمي. جدار برلين، ذاك الذي امتد بطول 155 كيلومترا، بارتفاع يقارب 3.6 متر، حمل على ظهره وجوها لم نرها، وصرخات خنقها الإسمنت، ودماء سالت على بواباته الموصدة. لكنه، رغم صلابته الظاهرة، كان يحمل من الهشاشة ما أسقطه أخيرا في لحظة تاريخية فارقة.

بين عامي 1945 و1961، كان أكثر من ثلاثة ملايين ألماني من الشرق يعبرون في الخفاء نحو الغرب، يفرون من الظل إلى الضوء، ومن القيد إلى الحلم. معظمهم كانوا من الشباب، من أصحاب الطموحات والمهارات، فكانوا بمثابة القلب النابض الذي نزف من جسد الدولة الشرقية. كانت برلين هي الثغرة، المدينة التي بقيت، بفعل خصوصية وضعها، بوابة مشرعة بين عالمين. هناك، حيث لم تكن الحواجز بعد قد اكتملت، بدأ الهروب يتخذ طابع النزيف الوطني.

وفي فجر يوم صيفي ساكن، الثالث عشر من أغسطس 1961، استيقظت برلين على صوت الحديد وهو يسكب بين الأحبة. جنود ينتشرون كالظلال على الخط الفاصل، يلقون بالخرسانة، ويمدون الأسلاك الشائكة كأنهم يرسمون حدا فاصلا بين حلم وحقيقة. هكذا ولد الجدار، لا كجدار مادي فحسب، بل أيضا كفاصل نفسي يمزق الروح الألمانية إلى شطرين: شرق حبس فيه الإنسان، وغرب ظل يدعو بالنداء.

الجدار لم يكن مجرد بناء صامت. لقد كان آلة قمع كاملة: أبراج مراقبة تحدق في العابرين، مناطق موت مفخخة بالألغام، أوامر بإطلاق النار على كل من تسول له نفسه الهرب من قيد الواقع، ولو كان طفلا أو أما تحاول عبور الزمن من أجل أبنائها. وعلى أرض ترابية سميت “قطاع الموت”، كانت كل خطوة تحسب، وكل أثر يراقب.

في شوارع برلين اليوم ترى وجوها عربية وشرقية في كل زاوية، في المحلات، في الأسواق، في المقاهي

ومن بين المعابر، كانت نقطة التفتيش “شارلي” العين المفتوحة للشك والريبة، والمسرح الذي التقى فيه الجواسيس بالأمل، حيث تناثرت قصص الهروب التي شابهت الأساطير: أنفاق حفرت تحت الأرض، بالونات ارتفعت بالقلوب فوق الأسلاك، وسيارات عدلت لتخبئ الحالمين بين المعادن.

لكن الجدار، في قسوته، لم يكن يقسم الجغرافيا فحسب، بل كان أيضا يشرح العائلة، ويخلع الأخ من يد أخيه، ويجعل الحنين جريمة، والرسالة أداة اشتباه. عزل الشرق لا بجغرافيا الحديد فقط، بل بعزلة الفكر أيضا، بتشويه صورة “الآخر” وتحويله إلى خطر دائم، وعدو افتراضي يبرر استمرار القمع.

ومع توالي السنين، بات الجدار جزءا من الحياة اليومية، كظل لا يزول. ومع كل فجر جديد، كان الفارق يتعمق بين حياة الأمان المقموعة في الشرق، ووهج الحرية والنمو في الغرب. حتى جاء يناير 1989، حين أعلن رئيس الدولة الشرقية أن الجدار سيبقى لمئة عام أخرى. لكنه لم يكن يعلم أن الشعوب لا تحبس في القوالب، وأن الجدران مهما بلغ علوها، لا تصمد أمام الريح إذا ما حملت نفسا من حرية.

وفي التاسع من نوفمبر من ذات العام، بكلمة مرتجلة خلال مؤتمر صحفي، أطلقت شرارة لا رجعة فيها. حين قال المتحدث الرسمي للحزب الحاكم إن قيود السفر قد رفعت “فورا”، لم يكن يعلم أنه أعلن سقوط الجدار من دون أن يدري. فاندفع الآلاف، لا بالسلاح، بل بالأمل، نحو نقاط العبور، وكانت المعجزة: الجنود لم يطلقوا الرصاص. الجدار بدأ يتهاوى تحت ضربات المطارق، والقلوب. لم يكن سقوطه ماديا فحسب، بل نفسيا وتاريخيا أيضا، كأنما انهارت معه عقود من القهر، وانهارت أسوار العزلة في الوجدان.

ولئن انهار الحجر، بقي الجدار في الذاكرة كرمز مركب: للتقسيم، للخوف، لكنه أيضا للتحدي والانتصار. لم يهدم فقط بمعاول الناس، بل بهتاف الشوق، بنبض العائلات، بقوة الذاكرة التي لا تقمع.

مدينة لا تنسى

الجدار لم يكن مجرد بناء صامت
الجدار لم يكن مجرد بناء صامت

اليوم، حين تقف في ساحة بوابة براندنبورغ، حيث كانت العتمة تنقسم، وتشهد على ليل برلين المقسمة، لا يمكنك إلا أن تشعر بقوة المكان. فهذه البوابة التي كانت رمز الانفصال، أصبحت مرآة للوحدة. ومن خلفها، تمتد الساحات، كل واحدة تحمل قصة من قصص العاصمة التي عرفت الحرب والسلام، الانقسام واللقاء.

في ألكسندر بلاتس، ينبض قلب المدينة الحديث، تحت برج التلفزيون الذي يعلو كشاهق شهد كل شيء. أما في بوتسدامر بلاتس، فقد قامت مدينة من رماد، بنيت أحلام جديدة على أرض كانت لعقود فارغة. هناك تلاقى فن العمارة الحديث مع التاريخ الجريح، ليثبت أن الحياة تبعث من جديد، وأن المدن، مثل القلوب، يمكنها أن تلتئم رغم كل شيء.

وبين نصب الهولوكوست، وبقايا الجدار، والمقاهي النابضة بالحياة، يبقى في برلين درس لا ينسى. تظل الجدران التي تبنى لعزل الإنسان عن أخيه، لا تهدم بالحجارة فقط… بل بالشوق، وبالكرامة، وبحق لا يموت في العيش الحر.

نعم، برلين ليست مثالية، ولا تخلو من التناقضات. لكنها تملك من الروح ما يجعلها مدينة لا تنسى. حضورها في الذاكرة أقوى من كل التفاصيل السلبية. إنها مدينة من لحم ودم، تتنفس، تتعب، تنهض، وتواصل الطريق.

ومن هنا، فإن زيارة برلين ليست فقط رحلة سياحية، بل تجربة فكرية وإنسانية. تضعك أمام أسئلة كثيرة عن الهوية، والانتماء، والاندماج، والتعايش. عن كيف يمكن للإنسان أن يصنع له مكانا في وطن ليس له، وكيف يمكن لمدينة أن تعيد تشكيل نفسها كل يوم.

وفي النهاية، تبقى برلين مدينة تحتمل كل هذه الصور، بجمالها وإهمالها، بإنسانيتها وصرامتها، بتاريخها وواقعها. مدينة لا تحب من النظرة الأولى، لكنك إن أنصت لها جيدا، ستسمع حكاياتها، وستفهم لماذا تظل دائما، حاضرة في القلب.

11