بدو الأردن.. من التطلع إلى الإصلاح إلى الخشية من ضياع ما تبقى من امتيازات

تجد اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن نفسها أمام معادلة صعبة، بين صياغة قانون انتخابي عصري ومتطور يقطع مع الإخلالات التي شابت القوانين السابقة والتي منحت امتيازات لقوى بعينها على حساب أخرى، وبين الحفاظ على توازنات قائمة منذ عقود يُخشى من أن يؤدي اهتزازها إلى تبعات خطرة تهدد السلم الاجتماعي.
تتسارع وتيرة النقاشات التي بدأتها اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن، مع فعاليات ومكونات سياسية ومجتمعية مختلفة منذ نحو شهر، على أمل التوصل إلى تصوّر واضح لاسيما بشأن قانوني الانتخابات والأحزاب.
لا تبدو مهمة اللجنة التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق والعضو السابق في الديوان الملكي سمير زيد الرفاعي سهلة، في ظل ألغام كثيرة تفترش مسار التحديث، وهو ما يفسّر التعاطي الحذر من قبل الرئيس والأعضاء مع ما يتسرب من مفاوضات.
يدرك الرفاعي، أن عليه المواءمة بين متطلبات التحديث وتطوير الحياة السياسية وبين الحفاظ على التوازنات القائمة في المملكة منذ عقود، خصوصا وأن هناك مكونات لها امتيازات لن تقبل بسهولة التنازل عنها، على غرار بدو العشائر.
وللبادية الأردنية وضع خاص في المشاركة في العملية الانتخابية يستند أساسا إلى قانون الانتخاب لعام 1928، حيث يقرّ هذا القانون البدوي بأن كل شخص ينتمي إلى إحدى العشائر المدرجة ضمنه. وتقسّم الدوائر الانتخابية في مناطق البادية وفق هذه العشائر وليس الدائرة الجغرافية، على خلاف باقي الدوائر داخل المملكة.
وكان هذا التمثيل مبرّرا حينها لأن البدو كانوا رحلا يتنقلون من منطقة إلى أخرى حسب المواسم بحثا عن المرعى، وكان يتم تمثيلهم حينها في المجالس التشريعية عن طريق ممثلين اثنين، يتم اختيارهما وفق التمشي الآتي: يعين الأمير لجنتين، واحدة لبدو الشمال والأخرى لبدو الجنوب، لتختار كل لجنة ممثلا عنها في المجالس التشريعية.
وجرى تعديل القانون في العام 1951، بحيث أصبح انتخاب البدو انتخابا مباشرا ضمن دوائر مغلقة بموجب القانون رقم 79 الذي لا يزال معمولا به حتى اليوم، مع إضافة دائرة بدو الوسط. وهذا القانون يمنح سكان البادية مقاعد ثابتة (أشبه بنظام الكوتا)، في أي انتخابات تشريعية، الأمر الذي يخالف النص الدستوري الذي ينص على أن جميع الأردنيين سواسية أمام القانون.
ولئن كان هذا القانون في مجمله يشكل امتيازا لأبناء البادية فإنه ينطوي أيضا على سلبيات بالنسبة لهم، ذلك أن الدوائر المغلقة تفرض على أبناء البادية الترشح فقط ضمن دوائرهم الانتخابية، وهناك اليوم الآلاف من أبناء البدو يستقرون في محافظات ومناطق أخرى داخل المملكة، بفعل التحولات المجتمعية وتغير ظروف العمل.
جس نبض
حرصت اللجنة الملكية مؤخرا على فتح نقاشات مع الفعاليات العشائرية في مناطق البادية الأردنية، حيث زار رئيسها سمير زيد الرفاعي مؤخرا عددا من أبناء البادية الجنوبية، وتم التطرق إلى مواقفهم ورؤيتهم بشأن القانون الانتخابي الجديد.
بالتوازي مع ذلك جرت مباحثات صلب أعمال اللجنة حيث قدم العضو عمر مشهور الجازي، طرحا قانونيا يقضي بإلغاء دوائر البادية لما تتضمنه من مخالفة لمبدأ المساواة التي نص عليها الدستور الأردني.
وتستند مقاربة الجازي على مرتكزات قانونية تتمثل في أن الإبقاء على دوائر البدو بشكلها الحالي ينطوي على “مخالفة للمادة 6-1 من الدستور التي تنص على أن الأردنيين سواسية أمام القانون”، و”مخالفة قانون الانتخاب حول شروط الترشح لعضوية مجلس النواب، الذي لا يشترط الانتماء إلى منطقة جغرافية معينة لخوض الانتخابات”.
وتعتبر هذه المقاربة أن الإبقاء على التقسيم الحالي للمرشحين في دوائر البدو يحمل بين طياته العديد من المشكلات الدستورية، من أهمها أنه يفتح المجال أمام المحكمة الدستورية لممارسة رقابتها على دستورية تلك النصوص في قانون الانتخاب بأن تقرر عدم دستوريتها، وبالنتيجة إعلان بطلان الانتخابات النيابية، وهو ما من شأنه أن يدخل الدولة في أزمة سياسية.
وأوضح الجازي لاحقا في تصريحات لصحيفة “الغد” المحلية أن مقترحه مبني “على وجهة نظر قانونية ولا تعني بأي حال من اﻷحوال موقفا مضادا ﻷي حقوق مكتسبة”، مؤكدا أن “الهدف منها ليس تقليص مقاعد البادية، بل من شأن إلغاء دوائر البادية أو إلغاء إغلاقها أن يزيد مقاعدها”.
واعتبر أن التوصية بـ”إلغاء دوائر البادية أو إلغاء إغلاقها هو حاجة في أي مشروع قانون انتخاب جديد أو تعديل، استنادا إلى أن العشائر الأردنية البدوية الأصيلة والوارد ذكرها في جداول الانتخاب الحالية والمخصصة لبدو الشمال والوسط والجنوب، هي جزء أساسي من النسيج الوطني الأردني”.
دوائر البدو بين أخذ ورد
أثار طرح إلغاء دوائر البدو جدلا كبيرا وأبدى العديد من الشخصيات ومن بينهم أعضاء داخل اللجنة الملكية تحفظهم على ذلك. وينظر إلى مثل هذه الطروحات بنظرة لا تخلو من ريبة في أن تكون محاولة جديدة لاستهداف هذا المكون، وهناك من ذهب إلى التحذير من أن اللعب على هذا الوتر قد يخلق فوضى سياسية المملكة في غنى عنها، لاسيما في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها حاليا.
وقال عضو اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية حديثة الخريشا، “إن البدو ليسوا أقلية”، متسائلا فيما إذا تم اعتماد التقسيمات الإدارية، “هل سيتمكن (من النجاح) أبناء هذه الدوائر الذين تشتتوا باستقرارهم معتمدين تاريخيا على أن تمثيلهم النيابي محفوظ من خلال دوائرهم؟ أقول هل من الممكن أن تكون لهم فرصة بالنجاح؟ الجواب بكل تأكيد لا فرصة لهم”.
ورأى أن هناك خلطا وعدم فهم حقيقي لدى مختلف شرائح المجتمع الأردني لماهية دوائر البدو، لافتا إلى أن الدائرة الانتخابية تعني سجل الناخبين وعدد المقاعد المخصصة لهذه الدائرة في المجلس النيابي. وشدد الخريشا على أنه لا توجد أي شبهة دستورية في دوائر البدو، موضحا أن الإغلاق عند دوائر البدو تعني أنه لا يجوز لابن البادية أن يترشح في دائرة غير دائرته وكذلك سجل الناخبين.
وحذر من أنه عند إلحاق دوائر البدو بالجغرافيا لن يحصل أبناء تلك الدوائر على المقاعد المخصصة لهم ولن يكون لهم تمثيل، مشيرا في الآن ذاته إلى أنه مع فتح دوائر البدو من ناحية الترشح خارج دوائرهم.
ولفت إلى أن هذا الإغلاق يجب أن يتوقف، فأبناء البادية منهم النخب الذين من الممكن أن تكون لهم الفرصة بالترشح في أي دائرة انتخابية، وكذلك فأبناء البادية منفتحون أيضا على أي من أبناء الوطن ليترشحوا في دوائرهم.
السجال الدائر حول دوائر البادية مؤشر سلبي يشي بأن طريق اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية محفوف بالمخاطر، وسط تساؤلات تغلفها الكثير من الشكوك حول إلى أي مدى يمكن للجنة الرفاعي أن تذهب في الإصلاحات؟ وهل فعلا تملك اللجنة ضوءا أخضر لإحداث تغيير جذري في المنظومة القائمة؟
وقال الرفاعي مؤخرا إن “التوجيه الملكي واضح الهدف لتطوير منظومتنا السياسية وصولا إلى حياة برلمانية وحزبية تناسب الأردنيين ومسيرتنا الديمقراطية”. وأضاف “مسؤوليتنا اليوم تتمثل بوضع مشاريع قوانين توافقية تضمن الانتقال المتدرج نحو تحقيق الأهداف المستقبلية كاملة، وتخدم المواطنين في حاضرهم ومستقبلهم”.
تحذيرات من المس بدوائر البادية لما قد يفضي إليه ذلك من فوضى سياسية، الأردن في غنى عنها في ظل الظروف الراهنة
وشدد على أن “جهود اللجنة منصبة من خلال اللجان الفرعية الست، لتقديم مخرجات تسهم في مواصلة عملية التطوير والتحديث لضمان حق الأردنيين والأردنيات في ممارسة حياة برلمانية وحزبية ترقى بديمقراطيتهم وحياتهم، وتسهم في تحقيق أمنياتهم مع دخول الدولة مئويتها الثانية، مثلما أكد الملك في رسالته التي تشكلت اللجنة بموجبها”، لافتا إلى أن “جميع أعضاء اللجنة يدركون تماما أنهم أمام مهمة تاريخية تجاه الوطن والمواطن، ونعمل جميعا ضمن هذا الإطار”.
كلمات الرفاعي وإن تبدو مطمئنة وواثقة بيد أن الكثيرين يرون أن هناك إكراهات تعوق فعلا حدوث طفرة إصلاحية، حيث إنه ليس من المرجح أن يقبل البدو أو باقي الطيف العشائري المس بامتيازاتهم، وسينظرون إلى هذه الخطوة على أنها مسعى جديد لإضعافهم.
تشهد العلاقة بين العشائر لاسيما في المناطق الطرفية والدولة الأردنية حالة من اللااستقرار بسبب شعور أبناء العشائر بحالة من الإهمال والتهميش، في غياب فرص العمل وانعدام التنمية في مناطقهم.
علاقة متأرجحة

تفجرت في السنوات الأخيرة تحركات احتجاجية قادها أبناء العشائر من المناطق الطرفية للمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والتنموية، لتتحول بعدها تلك المطالب إلى دعوات لتحقيق إصلاحات سياسية عميقة في ظل حالة من اليأس من إمكانية تصويب الأوضاع في ظل الوضع الراهن.
وعرت قضية الفتنة التي انفجرت في أبريل الماضي وارتبطت بولي العهد السابق الأمير حمزة بن الحسين ما كان مخفيا، سواء لناحية الصراعات داخل الأسرة الملكية، وهذا أمر غير معهود في تاريخ الأردن الحديث، وأيضا في علاقة بما وصلت إليه العلاقة بين العشائر وبينهم البدو وبين المنظومة السياسية القائمة.
وتبدو اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية أمام معادلة صعبة بين الإيفاء بتعهداتها للشعب الأردني، وعدم الخضوع للضغوط “غير المرئية” بوضع قانون انتخابي عصري يقطع مع أي تمييز لصالح أي مكون، وبين إرضاء جميع القوى، وتحقيق توافق شامل حول الإصلاحات، و”هي غاية لا تدرك”.
وإزاء الوضع المختل حاليا يشكك البعض في إمكانية أن تندفع اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية باتجاه إلغاء دوائر البدو، لأن ذلك سيؤدي حتما إلى المزيد من تأجيج الأوضاع، وأن أقصى ما يمكن أن تقدم عليه هو إنهاء العمل بالدوائر المغلقة (بدو الشمال والوسط والجنوب)، وهذا سينسف جوهر العملية الإصلاحية الذي يقوم على أن “الجميع سواسية أمام القانون”.