بانيبال الإسبانية تضيء على الأدب الفلسطيني بين مرثياته وصموده

العدد 15 من مجلة بانيبال يحتفي بتجارب شعراء وكتاب فلسطينيين في ظل أوضاع لا إنسانية وكوارث مفزعة.
الثلاثاء 2024/11/26
صور تراجيدية عن فلسطين (عمل للفنان حازم بيطار)

جوسيلين ميشيل ألميدا

مدريد- كتب الشاعر البريطاني تي.أس إليوت، تمجيدا للبكاء الذي يميّز المرثيات “على ضفاف ليمان شرعت في البكاء”، في كتابه “الأرض اليباب” (1922)، وكان واحدا من التجليات الأولى للمرثية الجماعية في الشعر الحداثي عقب الحرب العالمية الأولى.

لقد أحال التاريخ بكاء الشاعر إلى نبؤة بالكوارث التي ستحل بالبشرية، بعد قليل، مع الحرب العالمية الثانية. “لن يحدث مرة أخرى”، هكذا قيل بعد وقوع تلك الكوارث، لكن بحسب تصريحات محكمة العدل الدولية في يوليو 2024، ثمة كوارث أخرى تحدث الآن في غزة.

في هذا الصدد وكشفا لملامح أخرى من المآلات القاسية عبر نافذة الأدب، يسلط العدد 15 من مجلة بانيبال في نسختها الإسبانية الضوء على شعراء وكُتّاب فلسطينيين مثل سامر أبوهواش (وينشر ديوانه “من النهر إلى البحر” كاملا)، وداليا طه ورنا زيد، بترجمة ماريا لويسا بريتو، والكاتبة فرح حليم هوب.

◄ بانيبال تنشر في عددها ديوان الفلسطيني سامر أبوهواش "من النهر إلى البحر" كاملا
بانيبال تنشر في عددها ديوان الفلسطيني سامر أبوهواش "من النهر إلى البحر" كاملا

في أعمال أبوهواش وطه وزيد وحليم هوب، يتجلى عمل الشاعر والكاتب في تشييد ذاكرة وخلق مجتمع متخيل عبر الأدب، كما يكتب بنديكت أندرسون، “مجتمع سياسي متخيل بقدر ما هو محدد وسيادي بشكل غير متماسك” يرد على مطالب العدل النابضة في أدب المرثية.

في ديوان “من النهر إلى البحر”، يستحضر سامر أبوهواش، الشاعر الفلسطيني، ديوان “الأرض اليباب” لإليوت، ليفتتح بذلك مرثية يتناول فيها الاحتضار الجارف والفقد الشخصي والجماعي تحت عنف القصف والجوع المتعمّد المفروض على شعب كامل أمام تجاهل المجتمع الدولي (“لم يعد مهما أن يحبنا أحد”).

 يوجّه الشاعر خطابه إلى القارئ منذ الشطر الأول: “أيها الآتي من بعيد/ يا من تقف على أعتاب تلك النهايات/ يا من تطأ قدماه/ هذه الأرض الخراب” (الأنقاض). لكن إليوت ليس إلا محطة انطلاق ما يلبث أن يختفي. في قصيدته، يتوسل أبوهواش التناص مع إليوت وتجريده الرمزي من أجل تجسيد الفقد عبر اللغة، وإعادة تشكيل الجسد المتشظي لتقديمه أمام أعين القراء.

تكتسب الرؤية والنظرة، بالتالي، أهمية مركزية في طريقة أبوهواش الرثائية. فمن أجل التذكير بالمشاعر والضمير يستلزم الرؤية، ويصر على تسريب نظرة قريبة للشاعر والقارئ من القصيدة الأولى، حيث “ثمة طفلة / يدها ممدودة / من بين الشقوق / وقلبها / يرتعش / تحت التُراب” والتي، مثل قصة “القلب المنبئ” لإدغار ألن بو، تشير إلى الجريمة المرتكبة ضد أطفال فلسطين (“الأنقاض”). في “نظرات أطفالنا بين الأطلال”، يفجّر الشاعر مجددا حاسة البصر وصلة الرؤية والفهم.

ويعتبر التجريب الشكلي أحد الملامح المكررة في شعرية داليا طه، وقصائدها في ديوان “والآن، تعالَ أيها الصمت” تتحرك بين قصيدة النثر والشعر التقليدي لتعبّر عن كيف يحوّل الفقد تجربة الشاعرة إلى أشياء مثل الصمت والكتابة والدموع والقصيدة والكتاب والشعر. والنداء في “الآن، تعال أيها الصمت” “والآن، تعالي أيتها الدموع” “والآن، تعالي أيتها القصيدة” “والآن، تعالي أيتها الأغاني”، يعكس الدور الإبداعي للشاعرة، التي ما إن تنطق الاسم حتى تعيد بناء علاقتها بالعالم.

يأتي هذا التعداد كتكنيك تستخدمه طه بكثرة، كما في قصيدتها شديدة الجمال “والآن، تعال أيها العالم”، وتحتفي فيها بالمقاومة الجماعية للشعب الفلسطيني.

تقول الشاعرة “انظر إلى كل شيء هنا،/ الصخور والزهور./ بيتان مختلفان لنفس الحكمة/ حتى لو حطمتهما/ إلى ألف قطعة/ سيظلا مقفلين/ انظر إلى كل ما هو حولك/ صورتك ممتدة في فضاء شاسع.”

وفي “توطئة للألم” يسود البعد الرمزي، إذ تتوسل الشاعرة الخيال والرمز لتحول “البحر الفاحم” وألم التدمير إلى جمال. وحين تتحدث إلى حبيبها، تكتب “فخمن أننا رأينا غير هذا الذي مرَّ علينا/ خمّن أننا في الشام/ نقص ورق الدالية اليابس/ ثم نسهو فنعيد إلى التفاح/ الذي كنا سرقناه بالأمس، طعم التعاويذ والنهد.”

الخيال كمأوى في مواجهة التدمير وذكرى الحرب هو كذلك أداة فرح حليمة هوب في قصتها المؤثرة، إذ تروي الانفصال الجبري بين شابين فلسطينيين حديثي الزواج خلال الحرب الأهلية في بيروت 1980. ينقلنا سرد فرح حليمة هوب السينمائي إلى مكانين، لندن وبيروت، حيث يحاول البطلان التعايش على أمل اللقاء وتشييد عائلة مجددا.

◄ الفقد يحوّل تجربة الشاعر إلى أشياء مثل الصمت والكتابة والدموع
الفقد يحوّل تجربة الشاعر إلى أشياء مثل الصمت والكتابة والدموع 

وتواصل المجلة قراءة الحراك الأدبي العربي في مختلف الأقطار العربية بترجمة نصوص مختارة من مشرق العالم العربي إلى مغربه. وينشر العدد فصلا من رواية “الحلواني: ثلاثية الفاطميين”، للكاتبة المصرية ريم بسيوني، الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الأدب (2024)، والكاتبة العمانية هدى حمد “لا يُذكرون في مجاز”، والكاتب المصري عزت القمحاوي “الطاهي يقتل، الكاتب ينتحر”، بالإضافة إلى قصائد للشاعر الكولومبي الإسباني خوان بابلو روا، وهو ضيف العدد.

وتفتح كل من ريم بسيوني وهدى حمد فضاءات في داخل الشخصيات النسائية عبر الواقعية السحرية، فيما يتأمل القمحاوي في العلاقة بين المطبخ والكتابة. ويرسم صموئيل شمعون حياة الصعلكة القاسية في المنفى بباريس الثمانينات وصراع الفنان ليتحقق. التحقق الشخصي هو أيضا موضوع رواية “ظل الشمس” للكاتب الكويتي طالب الرفاعي، وتقدم لها المجلة عرضا في باب الكتب. ثم تأتي شعرية خوان بابلو روا، الشاعر الكولومبي المقيم في إسبانيا، إذ يحتفي بالنسيج المنزلي للحياة اليومية في كولومبيا وبرشلونة على حد سواء. وتتذكر مجلة بانيبال كذلك الروائي اللبناني إلياس خوري، ويتضمن العدد أيضا تغطية لموسم أصيلة الثقافي الدولي للعام 2024 وتكريم الكاتب المغربي محمد الأشعري.

يمثّل عمل أبوهواش وطه وزيد وحليمة في هذا العدد من مجلة بانيبال عنصرا شديد الارتباط بتجربة “الجماعة السياسية المهمشة” لفلسطينيين يقاومون العنف اللاإنساني في غزة، وتجربة الفلسطينيين في الضفة الغربية في مواجهتهم لاعتداءات المحتلين الإسرائيليين ولنظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وتجارب هؤلاء الفلسطينيين في المنفى. غير أن هذه الجماعة تتشكّل كذلك من المجتمع المدني العالمي الموجّه إليه الكلمة والمتوجه إليه الشاعر، كما في “من النهر إلى البحر“، وهو عنوان يربط تيارات هذا الرافد من الجماعات حول العالم. وفي “والآن، تعال أيها الرعب” تكتب داليا طه “بدونك لن ينظر أحد في عيني أحد، لن تلتقي الأيدي أبدا. هذه الأيدي هي التي تشير إلى مستقبل لا يزال ممكنا للبشرية”.

 

12