باكستان تواجه التشدد الديني في أشد تجلياته

تسير باكستان نحو ترسيخ التشدد الديني علنا وتعزيز نفوذ الإسلام السياسي، محاولة في ذلك الحفاظ على علاقاتها مع طالبان والدول الداعمة للتشدد الديني بالإضافة إلى علاقاتها مع الدول الإسلامية التي تتبع نهجا سياسيا معتدلا والتي توفر لها دعما في مواجهة أزماتها وللحد من النفوذين التركي والإيراني في البلاد، ومن بينها المملكة العربية السعودية التي جددت دعمها لإسلام آباد اقتصاديا خلال الشهر الماضي.
واشنطن- يشهد التيار المحافظ السني المتشدد ظرفا ملائما، فبعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان طالبان انتصارها في أفغانستان، تتحرك باكستان وهي ثاني أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة من حيث عدد السكان للانضمام إلى كابول لتصبح القاعدة الأمامية للتعصب الديني والتفوق الإسلامي.
وبذلك تقف باكستان جنبا إلى جنب مع أفغانستان ودول مثل تركيا وإيران للمناداة بأشكال من الإسلام السياسي والالتزام العلني بالدين على عكس دول الخليج وحركات مثل نهضة العلماء الإندونيسية التي تتبنّى بدرجات متفاوتة تفسيرات متسامحة وتعددية للإسلام.
وجود تكتيكي
يقول المحلل السياسي والخبير في قضايا الشرق الأوسط جيمس دورسي إن كل ما سبق ذكره لم يمنع باكستان من إقامة علاقات مع طرفي الخلاف، مستفيدة في ذلك من تحول ساحات القتال في الشرق الأوسط، حيث يسعى الخصوم لتخفيف حدة التوترات لتجنب خروج الصراعات عن السيطرة.

جيمس دورسي: الأوضاع ملائمة للمحافظين المتطرفين مع وجود طالبان
وفي أحدث خطوة أحيت المملكة العربية السعودية دعمها المالي لباكستان بإيداعها 3 مليارات دولار في البنك المركزي وما يصل إلى 1.5 مليار دولار من إمدادات النفط مع مدفوعات مؤجلة، حيث علقت السعودية مساعداتها العام الماضي بسبب انتقادات باكستانية لعدم دعم المملكة لها في نزاعها مع الهند بشأن كشمير.
ومع ذلك فإن دعم المملكة المتجدد ناتج عن الرغبة في مواجهة توطيد العلاقات العسكرية والثقافية بين باكستان وتركيا، وكذلك علاقة باكستان مع طالبان إثر انتصار الجماعة في أفغانستان.
وأفادت التقارير أن باكستان تقدم دعما استخباراتيا وتقنيا لطالبان في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان. ويشعر المجتمع الدولي بالقلق بشأن الدولة الإسلامية، لكنه لم يكن مستعدا للتعامل مع طالبان علنا لمواجهة الجماعة الجهادية.
وأشار جاويد أحمد الذي كان سفيرا لأفغانستان لدى الإمارات العربية المتحدة حتى استيلاء طالبان على السلطة في صحيفة وول ستريت جورنال إلى أن باكستان كانت في وضع جيد لتحقيق ذلك بسبب “وجودها التكتيكي في وحدات طالبان، وخاصة شبكة حقاني المرتبطة بالقاعدة”.
ونقلا عن الاستخبارات الأفغانية السابقة لحركة طالبان، قال أحمد إن لنظيرتها الباكستانية “شبكة معقدة من المخبرين في المدن الكبرى، بما في ذلك وكالات السفر المحلية والبنوك التجارية والمطاعم والفنادق والمخابز وسائقي سيارات الأجرة”.
ويرى دورسي أن الدعم السعودي المتجدد يضع التطلعات السعودية لقيادة العالم الإسلامي في احتضانها للتسامح والاعتدال موضع شك، حيث جاء ذلك بعد يومين من استسلام الحكومة الباكستانية لمطالب جماعة متشددة يفترض أنها محظورة وتدعو إلى تطبيق صارم لقانون التجديف القديم.
وتتنافس المملكة العربية السعودية على قيادة العالم الإسلامي والقدرة على التعريف بالإسلام في القرن الحادي والعشرين مع الإمارات العربية المتحدة وقطر ونهضة العلماء. وتبقى نهضة العلماء الفاعل الوحيد غير الحكومي في هذا المزيج والكيان الوحيد الذي اتخذ خطوات عملية لترسيخ مبادئ التسامح في الفقه الإسلامي.
◄ المجتمع الدولي يشعر بالقلق بشأن الدولة الإسلامية، لكنه لم يكن مستعدا للتعامل مع طالبان علنا لمواجهة الجماعة الجهادية
وتحظى المنافسة بأهمية خاصة بالنسبة إلى المملكة التي شنت على مدى عقود أكبر حملة دبلوماسية عامة في العالم، حيث استثمرت حوالي 100 مليار دولار خارج حدودها لدعم المذاهب الإسلامية المحافظة المعادية لإيران. وجعل تاريخ باكستان منذ إنشاء الدولة في 1947 منها قصة النجاح الأولى للحملة التي صممت لمواجهة الإسلام الثوري الإيراني.
وسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ وصوله إلى السلطة في 2015 لتوجيه المملكة بعيدا عن دعمها العالمي للمحافظين من خلال خفض التمويل بشكل حاد، وتحرير بعض الأعراف الاجتماعية في الداخل، والسعي لاستبدال الهوية السعودية التي يغمرها الدين بأخرى تستند إلى القومية.
ومع ذلك لم يقنن الأمير محمد بن سلمان عند تطبيق ترويجه للتسامح الديني والحوار بين الأديان عبادة غير المسلمين وبناء دور العبادة لهم في المملكة.
معركة شاقة
تشكّل حزمة المساعدات السعودية المالية المجددة شريان حياة مؤقتا لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في الوقت الذي يسعى فيه لضمان استمرار الدعم من صندوق النقد الدولي لاقتصاد بلاده المضطرب.
ويرجح المحلل الأميركي أن يتطلّب استقرار الأوضاع المالية في باكستان وإصلاح اقتصادها معركة شاقة إذا لم يُصلح نظام التعليم في البلاد مع خلق بيئة تشجع على التفكير الإبداعي والحر. ويبدو أن تحركات خان الأخيرة مصممة لتحقيق العكس تماما.

حزمة المساعدات السعودية المالية المجددة تشكّل شريان حياة مؤقتا لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان
وقد يكون تراجع الحكومة هذا الأسبوع عن اتفاق مع الإسلاميين المتشددين الذين هددوا باقتحام العاصمة، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة قتل فيها أربعة ضباط شرطة وجرح حوالي 250 شخصا، شكّل علامة ظرفية ولكن ميول الحكومة واضحة.
وشكلت الاتفاقية الأولية نصرا لجماعة اليمين المتطرف ممثلة في حركة لبيك باكستان التي عززت موقفها المعلن كمدافع عن الإسلام والنبي محمد لإقناع الحكومة مرارا وتكرارا بتلبية مطالبها. وتستخدم الجماعة الاحتجاجات الجماهيرية التي تحاصر العاصمة الباكستانية إسلام آباد للضغط.
وحولت العباءة الدينية هذه الحركة إلى نسخة باكستانية من الحركات اليمينية المتطرفة والسياسيين الشعبويين في أوروبا وأماكن أخرى. وغرّد كاتب العمود مشرف زيدي قائلا “جعلت حركة لبيك باكستان من هذه الدعوة عقيدة دينية فوق النقد، لكن القلب النابض للحركة يكمن في الغضب الشديد الموجّه ضد النخب”. وأضاف أن تأييد المجموعة كان “يستمد جذوره من منحى اجتماعي واقتصادي حقيقي”.
ووافق وزير الداخلية شيخ راشد أحمد مؤخرا على إطلاق سراح أعضاء الجماعة من السجن، بمن فيهم المسؤولون عن عمليات القتل السابقة لموظفي إنفاذ القانون وكذلك زعيمها سعد رضوي وإلغاء تجميد حساباتها المصرفية.
وكان المطلب الوحيد الذي رفضته الحكومة هو أن تطرد باكستان السفير الفرنسي بسبب الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد والتي نشرتها مجلة شارلي إيبدو الساخرة في 2015. وقال أحمد إن الحكومة ستعرض الأمر على البرلمان.
وهاجم متشددون مكاتب المجلة في باريس في عام 2015 وقتلوا 12 من موظفيها. ويبدو أن النسخة الباكستانية من عرب نيوز السعودية على الإنترنت تسعى لتقويض الغضب تجاه فرنسا من خلال الإبلاغ عن رغبة الشركات الفرنسية في الاستثمار في البنية التحتية للسياحة الباكستانية على الرغم من التقلبات في البلاد.
وقال راشد أحمد في تبريره لاستسلام الحكومة الأولي “ليس من واجب الدولة استخدام العصا”.
ويقول دورسي إنه من غير المرجح أن يوحي أسلوب تعامل الحكومة مع الأزمة بالثقة في قدرتها إما على السيطرة على طالبان في أفغانستان كما يطالب شركاء باكستان، أو مكافحة غسيل الأموال وتمويل التشدد والعنف السياسي.
وبقيت باكستان منذ 2018 على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (فاتف)، وهي هيئة دولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لأنها فشلت في تلبية معايير المجموعة.
تقف باكستان جنبا إلى جنب مع أفغانستان ودول مثل تركيا وإيران للمناداة بأشكال من الإسلام السياسي والالتزام العلني بالدين على عكس دول الخليج
ومع سعي حكومة خان لأسلمة التعليم الباكستاني وإنشاء هيئة لمراقبة المناهج الدراسية ووسائل التواصل الاجتماعي للمحتوى “التجديفي”، أشار الكاتب زاهد حسين إلى أنه “يبدو أن هناك فرقا بسيطا بين سياسة تشجيع التدين التي يتبعها تطرف حركة لبيك باكستان الديني وحكومة خان”.
وحذّر من أن “سياسة الاسترضاء الحكومية قد زادت من التهديد الإرهابي للبلاد. وستكون للاستسلام للجماعات الإرهابية عواقب وخيمة للغاية على أمن البلاد واستقرارها”.
ويرى المحلل الأميركي أنه مع وجود طالبان في كابول تصبح الأوضاع ملائمة للمحافظين المتطرفين والجهاديين.