باسم عبدالحميد حمودي القوي والحالم حين يكتب

ناقد عراقي من الطراز الشجاع لا ينزوي في اللحظات الحرجة.
الأحد 2022/10/30
مثل نسيج بساط شعبي عراقي

أن يؤلف ناقد أدبي سبق له أن اهتم بالتراث الشعبي كتابا عن الممثلة ميريل ستريب ليتسلل من خلالها إلى عالم السينما الذي فتنه في مراحل مختلفة من حياته فذلك مفاجأة من العيار الثقيل.

بعد ذلك الكتاب يفاجئ قراءه برواية من نوع الخيال السياسي. فإذا كان كتابه عن الممثلة الأميركية تعبيرا عن انشداده إلى سحر عالم السينما وفتنته فإن روايته "الباشا وفيصل والزعيم" هي مغامرة ستجرده من سلطة الناقد.

ولكن باسم عبدالحميد حمودي الذي عُرف بنزاهته النقدية قرر أخيرا أن يمارس تلك النزاهة مع موهبته التي بدأها تجريبيا، حين كتب عن التراث الموسيقي في وقت مبكر من حياته معبرا عن رؤية مغايرة لما هو سائد من آراء تمجّد المقام العراقي.

كانت تلك معركة خاسرة تعلم منها الكثير حين انصرف إلى النقد الأدبي، بالرغم من أن شغفه بالتراث الشعبي ظل في صدارة الأسباب التي دفعته إلى الكتابة. وهو ما جعل منه واحدا من أهم الكتاب في ذلك المجال قبل ومع صدور مجلة "التراث الشعبي" ببغداد عام 1963.

توزع عمل حمودي الكتابي بين نقد القصة والرواية من جهة ومن جهة أخرى توثيق الأدب والمأثورات الشعبية. وإذا ما كان قد تبوّأ مكانة مرموقة بين نقاد الأدب فإن ذلك لم يدفعه إلى التفريط في عشقه القديم للتراث الشعبي، لا لشيء إلا لأنه لم يجد تناقضا بين المجالين.

حكايات تحت اليد

كتاب حمودي عن الممثلة الأميركية ميريل ستريب يبدو تعبيرا عن انشداده إلى سحر عالم السينما وفتنته، فيما روايته "الباشا وفيصل والزعيم" مغامرة ستجرده من سلطة الناقد
كتاب حمودي عن ميريل ستريب يبدو تعبيرا عن انشداده إلى سحر عالم السينما، فيما روايته "الباشا وفيصل والزعيم" مغامرة ستجرده من سلطة الناقد

كان الفلكلور غاصا بالحكايات المثيرة التي يمكن تحويلها إلى أعمال أدبية معاصرة. وهو ما اجتهد في الإشارة إليه واضعا كشوفاته المشوقة بين أيدي الروائيين.

ومثلما عاش طفولته وجزءا من شبابه وهو يتنقل بين مدن العراق مستغرقا في النظر والإنصات إلى مشاهد وأصوات تلك الفسيفساء التي تركب أشكالا، يهدم بعضها البعض الآخر وتُصدر أنغاما تتناقض وتتناغم في ما بينها، فإنه تعلم حين مارس النقد الأدبي أن يرى مشهدا أدبيا بانوراميا بكل ما يعنيه من سعة وتنوع.

لم يكن مزاجه حاداً، وليست لأحكامه حدود ضيقة ولم يفرض على ما يقرأ وصفات جاهزة. ربما كان كتابه “التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة” هو الأكثر تجسيدا لتوزعه الكتابي وبراعته في الخروج من ذلك التوزع بنتائج إيجابية.

كانت الحرية التي تمتع بها حمودي في الكتابة مستلهمة من طريقته في النظر إلى الأعمال الأدبية التي عالجها نقديا. ولأنه صديقي يمكنني القول إن الناقد منه لا يتشبه بالإنسان الذي هو عليه ولا يتبعه بل هما الشخص نفسه.

كانت لحمودي طريقة تفكير في الأدب مستلهمة من إنسانيته التي هي بمثابة معيار رقابة. لذلك فإن حريته في الكتابة لم تصطدم بحرية الآخرين. هو ناقد من الطراز الشجاع الذي لا ينزوي في اللحظات الحرجة. فهو يقول كلمته من أجل أن يكون منصفا لا في مواجهة الآخر فحسب، بل وأيضا في مواجهة ذاته.

ولد عام 1937 في محلة الست نفيسة ببغداد. وبسبب مهنة والده معلما فقد بدأ ترحاله طفلا بين المدن العراقية كالناصرية والشامية والسماوة وأبوصخير، إلى أن استقر المقام بالعائلة أخيرا في بغداد عام 1947.

الناقد والإنسان وما بينهما

◙ عمل حمودي الكتابي يتوزّع بين نقد القصة والرواية من جهة، ومن جهة أخرى توثيق الأدب والمأثورات الشعبية
◙ عمل حمودي الكتابي يتوزّع بين نقد القصة والرواية من جهة، ومن جهة أخرى توثيق الأدب والمأثورات الشعبية

بعد تخرجه عمل مدرسا في الصويرة ومن ثم الدغارة بين سنتي 1960 و1937، بعد ذلك انتقل ثانية إلى بغداد. وبسبب قربه من مجتمعات وسط وجنوب العراق فقد نشأت بينه وبين تلك المجتمعات علاقة عاطفية عميقة أهلته لأن يكون دارسا فريدا من نوعه للعادات والتقاليد العشائرية والمفردات الجمالية التي شكلت نسيج الحياة الروحية والمادية في تلك البيئة التي كانت مجهولة على مستوى الدراسة الإنسانية.

وكانت ذاكرته خزانة لمعارف ووثائق ما كان يمكن الحصول عليها إلا من خلال الاحتكاك المباشر بتلك المجتمعات، وهو ما دفعه إلى الكتابة في ذلك المجال الخصب منذ أن تعرف على موهبته كاتبا.

◙ كانت لحمودي طريقة تفكير في الأدب مستلهمة من إنسانيته التي هي بمثابة معيار رقابة. لذلك فإن حريته في الكتابة لم تصطدم بحرية الآخرين

وحين انتقل إلى بغداد بشكل نهائي عمل في مجلة “التراث الشعبي”. تبوأ منصب رئيس تحريرها ونشر فيها العديد من الدراسات التي كانت في ما بعد مادة لكتابه “سحر الحقيقة”. وقد سبق ذلك بإصدار كتابه “تغريبة الخفاجي عامر العراقي”، وقد نشر كتابه “القضاء العرفي عند العرب” ضمن سلسلة “الكتاب للجميع” الذي كان مشروعا مشتركا بين صحف عربية عديدة.

عام 1998 أصدر حمودي كتاب “التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة”. كان ذلك الكتاب دراسة في مئة رواية عربية عالجها حمودي لكي يثبت نظريته في أن هناك علاقة لاواعية بين الروائي العربي وبيئته الشعبية. وألّف حمودي كتبا كثيرة أخرى وكان رائدا من خلالها في ذلك المجال الحيوي الذي هو الدراسات الإنسانية.

يوم صرنا صديقين كان يعمل في الإذاعة. غير أن هناك سرا في علاقتنا سيعرفه حمودي حين يقرأ هذا المقال؛ ففي بداية السبعينات، حيث كنت صغير السن، فزت بجائزة أفضل أغنية للأطفال في مسابقة أقامتها إذاعة صوت الجماهير “هل كان ذلك اسمها؟” وكان حمودي رئيسا للجنة التحكيم يومها. كم كنت سعيدا وأنا أصافحه.

لم يكن ناقدا انطباعيا

ذاكرته خزانة لمعارف ووثائق ما كان يمكن الحصول عليها إلا من خلال الاحتكاك المباشر بالناس
◙ ذاكرته خزانة لمعارف ووثائق ما كان يمكن الحصول عليها إلا من خلال الاحتكاك المباشر بالناس

يقول عنه الناقد نجم عبدالله كاظم “في الحديث عن مكانة الناقد باسم عبدالحميد حمودي بين نقاد السرد في العراق وفي النقد العراقي عموما، ربما يكون من المفيد أن نستحضر كتابه النقدي الأول 'في القصة  العراقية'. الكتاب عبارة عن مقدمة ربما تكون من أوائل ما كُتب بشمولية بعض الشيء عن قصص ما بعد ثورة تموز".

لقد عاصر حمودي تطورات القصة القصيرة ومن ثم الرواية في العراق في كل مراحلها. وكان حريصا في ما يكتب على أن يراقب الخط البياني مستفيدا من حساسيته في التقاط نقاط التحول التي مر بها السرد الأدبي في العراق منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم.

◙ قربه من مجتمعات وسط وجنوب العراق خلق بينه وبين تلك المجتمعات علاقة عاطفية عميقة أهّلته لأن يكون دارسا فريدا

لم يكن ناقدا انطباعيا. كانت لديه خلفية تاريخية. لذلك كان دقيقا وصبورا ونزيها في أحكامه. ربما من المؤسف أن الفضاء الثقافي العربي لم يتعرف على باسم عبدالحميد حمودي ناقدا أدبيا بقدر ما تعرف عليه باحثا في الإنسانيات.

سيُقال له “فعلت الأجمل” في تعليق على كتابه المثير والمشوق عن ستريب التي بدأت تألقها مع “كرامر ضد كرامر”، ولكن حمودي اختار ستريب التي يحبها لكي تكون أفلامها مدخلا لدراسة شيقة عن علاقة الأدب بالسينما.

كان لديه غرض خفي لم يشأ أن يقوله مباشرة، كانت ستريب واجهته الجميلة. لا تزال الرواية هي الأساس، ولكنه الأساس الذي يمكن أن يخترقه ظهور ممثلة بحجم ستريب. لا أحد في إمكانه أن يقول لناقد الرواية الذي انحاز إلى السينما “إنك على خطأ”.

وكما أعرفه فإن حمودي كان يبحث دائما عمَن يقول له “إنك على خطأ”. فمن خلال تلك الجملة يكتشف نقاط ضعفه وقوته. حمودي الذي هو ناقد أجيال قصصية كان حالما وقويا في الوقت نفسه مثل نسيج بساط شعبي. 

◙ حمودي لم يكن ناقدا انطباعيا. كانت لديه خلفية تاريخية. لذلك كان دقيقا وصبورا ونزيها في أحكامه
◙ حمودي لم يكن ناقدا انطباعيا. كانت لديه خلفية تاريخية. لذلك كان دقيقا وصبورا ونزيها في أحكامه

9