باريس تُقيم حوارا جماليا عن بُعد بين الروسي سوتين والهولندي دي كونينغ

متحف لورانجوري بباريس ينظم معرضا فنيا من 50 عملا تتمحور حول التوتر بين الشكل والمنقوص ورسم الجسد والممارسة التشكيلية.
الاثنين 2021/09/27
تعبيرية فريدة تقع بين التصويرية والتجريدية (لوحة لويليم دي كونينغ)

ينظم متحف لورانجوري بباريس معرضا فريدا يضع وجها لوجه الروسي شاييم سوتين والهولندي ويليم دي كونينغ، لتلمسّ الأثر الذي تركه سوتين بعد إقامته في باريس على دي كونينغ إثر استقراره في أميركا وتجنسه بجنسيتها.

بداية من منتصف سبتمبر الجاري وإلى العاشر من يناير 2022، يقترح متحف لورنجوري بباريس معرضا فريدا يضع آثار الروسي شاييم سوتين (1893 - 1943) والهولندي ويليم دي كونينغ (1904 - 1997) موضع محاورة، والطريف أنهما لم يلتقيا أبدا، فسوتين قدم إلى باريس من قرية سميلوفيتشي (بيلاروسيا الآن) وانضم إلى مدرستها في بداية القرن الماضي.

أما دي كونينغ فهو هولندي الأصل، هاجر إلى أميركا واستقر بها، وتأثّر بسوتين من خلال المعارض التي كانت تقام له في الولايات المتحدة، خاصة في الفترة الممتدة من الثلاثينات والخمسينات، أي في الفترة التي تمّت فيها قراءة الفنان التصويري في التقاليد الأوروبية على ضوء النظريات الفنية الجديدة، لاسيما أن سوتين ترك بصمة واضحة في جيل من الفنانين بعد الحرب الأولى، بسبب حياته البوهيمية لا محالة، حيث كان ينعت بالملعون، ولكن بفضل قوة فنه التعبيرية أساسا، إذ استطاع أن يجمع بين التعبيرية والتجريدية.

متحف لورنجوري بباريس يضع آثار الروسي سوتين والهولندي دي كونينغ موضع محاورة، رغم أنهما لم يلتقيا أبدا

وهو ما التقطه دي كونينغ وعمّقه منذ مطلع الخمسينات حين استهل حقله التصويري “نساء”، وهو عبارة عن لوحات تنبني داخلها تعبيرية فريدة، تقع بين التصويرية والتجريدية، وصادف أن ظهرت تلك اللغة التعبيرية الجديدة في اللحظة التي يستدعي فيها عالم سوتين الفني. فقد اكتشف لوحات سلفه منذ الثلاثينات، ولكن ازداد اطلاعا على تجربته بعد المعرض الاستعادي الذي نظمه متحف الفن الحديث بنيويورك عام 1950، ثم زيارة دي كونينغ لمؤسّسة بارنز بفيلادلفيا عام 1952.

ولعل دي كونينغ من فناني جيله القلائل الذين عرفوا كيف يكتشفون التوتّر القائم بين قطبين متناقضين في الظاهر، في أعمال سوتين، ونعني بهما البحث عن بنية مشفوعة بعلاقة ولع بتاريخ الفن، وميل واضح إلى الفوضوية. ومن ثمّ صارت آثار سوتين مرجعا دائما للفنان الهولندي - الأميركي.

وكان دي كونينغ يسعى إلى تخليص فنه من التناظر بين الفن التصويري والفن التجريدي، والبحث عن طريق غير مسبوق، فكانت تجربة سوتين عبارة عن إضفاء مشروعية على ممارسته.

ويُجري المعرض حوارا بين هذين الفنانين من خلال خمسين عملا تتمحور حول التوتر بين الشكل والمنقوص، ورسم الجسد، والممارسة التشكيلية، يتخللها وضعُ التجربتين في إطارهما التاريخي.

بين حقبتين وفنانين يدور حوار غير مباشر، بين سوتين الذي غالبا ما يظل عمله منسيا رغم دوره في منعرجات التجريد، وبين دي كونينغ كعلم بارز من أعلام التعبيرية التجريدية الأميركية التي تطوّرت في الخمسينات مع جاكسون بولوك ومارك روثكو وسواهما.

شريحة ألوان عنيفة ومتناقضة (لوحة لشاييم سوتين)
شريحة ألوان عنيفة ومتناقضة (لوحة لشاييم سوتين)

ويكشف عدد من لوحات سوتين عن صور ومناظر طبيعية لهذا “الفنان اللعين” الذي أحبّ عجن المواد كي يبث الحياة في رسوم متفجّرة، ذات شريحة ألوان عنيفة ومتناقضة، وسمك غير منتظم، على غرار مقاربات فان غوخ.

تلك التقنية الفنية المحمومة كان لها وقع عميق في نفس دي كونينغ عندما اكتشف لوحات سوتين، وكان يقول على مدى مسيرته الفنية لاحقا “لطالما كنت مجنونا بسوتين، وبلوحاته البديعة”، ولذلك كان يعتبر تلك الأعمال مصدر إلهام يتجسّد في لوحاته، حيث طبقات سميكة من المواد تغطّي عراةً ضخامًا بشعي المنظر لاسيما في سلسلة “نساء”. وبين الشكل واللاشكل، بين الإيقاع والجسد، تؤكّد تلك اللوحات المعروضة المراحل التجريبية التي ربطت إلى الأبد فنانين من فناني القرن العشرين غير قابلين للتصنيف.

سوتين ودي كونينغ اكتشفا مناطق عذراء انطلاقا من مؤثرات حاسمة، لدفعها إلى نقاط أبعد بشكل وحّد بينهما

وكان سوتين إذا أقبل على موضوع كلاسيكي، منظر طبيعي مثلا، يخضعه إلى رؤية مخصوصة تتبدّى في تشوّهات عجيبة مذهلة، لكونه يرفض كلّ أفق منظوري، حيث يتم قلب الأشجار والمنازل والتلال في تمثيل معذّب يقدّم الشعور على الملاحظة الدقيقة الصارمة للطبيعة، فهي تعكس بالأساس نفسيته القلقة المعذبة. وكان قد عبّر عن ذلك في رسالة إلى صاحب أحد أروقة الفنون بباريس ليوبولد زبوروفسكي، حيث كتب يقول “أودّ أن أغادر كانْيُ (جنوب فرنسا)، وهذه المناظر الطبيعية التي لم أعد أتحملها..”، وما ذلك إلاّ تعبير عن قلق وجودي، سوف يفتح المجال للتعبيرية الناشئة في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

كذلك دي كونينغ، حين صرّح أن “الجمال صار مثيرا للتوتّر. أفضّل ما يثير السخرية، لأنه أكثر مرحا”. وقد جسّد ذلك في سلسلة بورتريهات نسائية، حيث عاد إلى التصويرية، ولكن ليلوي عنقها. فعلى غرار سوتين، كان يرسم الأجساد بضربات عنيفة بل عدوانية من فرشته، فيشكّل أجسادا متشظية، ممزّقة داخل خليط من الأبيض والأخضر والأزرق والبرتقالي، حيث غالبا ما تكون الطبقات العديدة المتراكمة سميكة خشنة، وفي أحيان أخرى دقيقة شفافة.

إن ما يوحّد بين الفنانين هو حضورهما البارز في التاريخ الفني للقرن العشرين، فقد استطاع سوتين ودي كونينغ، مثل جملة من الفنانين المتميزين أمثال بيكاسو وماتيس ولسيان فود وباسكيا، أن يستكشفا مناطق عذراء انطلاقا من مؤثرات حاسمة، لدفعها إلى نقاط أبعد.

16