بارون شهواني وامرأة غير راضية وصبي متشوّق تدمرهم الرغبة

"السرّ الحارق".. رواية عن أنانية الرغبة وشهوة التملُك ، وصبي يبحث عن السر فيصاب بعقدة أوديب.
الخميس 2019/02/14
رجل وامرأة وطفل يصنعون سرا صادما (لوحة للفنان بسيم الريس)

في رحلة العبور من الطفولة نحو البلوغ، ثمة عالم سحري مُكبّل بأصفاد سذاجة الطفولة وبراءتها ينفتح على مصراعيه، ويكشف عُمق وكُنه “السر” الذي يحرص البالغون على إخفائه والاستمتاع به سرًا بعيدًا عن أعين الطفولة المُتلصّصة. في رواية “السرّ الحارق” للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، رصد لأبعاد ذلك السر من منظور ثلاث شخصيات.

"حين يقطع الحطَّاب شجرة ليتدفأ بها، لا يُفكّر في العصفور الذي يحرمه دفء عشه، ولكنه يُشفق عليه إذ يراه باردًا يُناجي وهجًا كاذبًا خلف نافذته. كذلك هو الإنسان في تعامله مع أخيه الإنسان"، يصلح هذا التصدير الذي جاء على غلاف رواية “السرّ الحارق” للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، في أن يكون مدخلا ملائمًا لتبيان فكرتها الرئيسية التي نسجها الكاتب من خلال أحداثها وشخوصها.

البارون والفريسة

تتوزع أحداث الرواية، الصادرة حديثًا في ترجمة عربية عن دار مسكيلياني للنشر، بين ثلاث شخصيات، تربطهم علاقات يُفترض أن تكون على درجة من العُمق والصدق، بيدّ أنه في ظل الحاجات والرغبات غير المُشبعة والسائلة لا يمكن كثيرًا العبء برغبات الآخرين أو أحاسيسهم، فهنا تصير الرغبات الفرديّة والأنانيّة التي لا تضع في اعتبارها الآخر وما يقع عليه من ضرر نفسي بشكل أساسي هي المُحرّك، ومن “سر الرغبّة” تتشكل أحداث الرواية.

تبدأ أحداث الرواية على لسان الراوي العليم في محطة قطار ببلدة سيمرنغ حيث يصل “البارون” المُنحدِر من عائلة أرستقراطية، متجهًا إلى الفندق بغية قضاء إجازته، إلا أنه يصاب بالإحباط بعد أن يتفحص قائمة النزلاء بالفندق ولا يجد أحدًا، فهو يتطلع إلى مغامرات نسائيّة على وجه الخصوص خلال تلك الفترة التي يقضيها كعُطلة في مكان ناء، ولا يتصور أن تمُر إجازته في سكون دون مراوغات أو مقامرات.

يُمعن الكاتب في التركيز على السمات النفسية للبارون، الشخصية الأولى التي تبدأ معها الرواية، وتحديدًا تلك السمات المُرتبطة بالإغواء الجنسي؛ فهو من “قاتلي النساء”؛ تتأهب دوافعه الجنسية على الدوام لمطاردة الفريسة، مسكون برغبة المُقامر الباردة والمحسوبة، ومن هذه الرغبة وما ينجم عنها من مُقامرات تتشكّل سعادته، وتتحدد خطواته وخططه للإيقاع بالفريسة الملائمة لمغامرة شيّقة.

"السرّ الحارق" هو ذلك العالم السحري الذي اكتشفه الفتى في رحلة عبوره من الطفولة إلى البلوغ بكل الوعود والآمال المتجددة

يتغير إحباط البارون حين تمرق أمامه امرأة جميلة مع ابنها في بهو الفندق، فيُعلن لنفسه أن لعبة المراوغة قد بدأت، وأنه أخيرًا قد عثر على شريكته في تلك العُطلة. يُقرر البارون أن يتخذ من صداقته مع الابن “إدغار”، الفتى الصغير في عمر الثانية عشرة، سُلّمًا يصعد به نحو والدته، ليكون وسيطًا يمهد له الطريق للوصول إلى أمه، ومن خلال الحوار معه كسب وده وعرف كل شيء عن العائلة؛ فإدغار هو الابن الوحيد لمحامٍ من فيينا، كما أنه استشف أن العلاقة بين الأم والأب لم تكن على ما يُرام.

يُركّز الكاتب على الملامح النفسية للشخصيات لتبيان دوافع سلوكها وتوجهاتها؛ فالفتى الصغير إدغار يندفع في التعلُق بالبارون والفرح بصداقته، لأنه منحه اهتمامًا نقله من تلك الحيادية الباردة أو الإهمال المُتعمّد للأطفال في سنه، إلى عالم الكبار الذي صار ينتمي إليه بُحكم صداقته لهذا البارون.

أما عن الأم، فقد كانت الفريسة المُناسبة تمامًا في نظر البارون، فهي في سنّ حرجة، يوشك فيها جمالها على الغروب، وتتأرجح ما بين الاستقالة النهائية والبقاء على إخلاص لزوج لم تحبّه في الحقيقة والاكتفاء بدور الأم إلى الأبد أو أن تختار العشق الأنثوي الآمل في علاقة حميمية ممتعة تُنقذ فيها ما تبقى من أنوثتها المُوشكة على الغروب.

يبدأ البارون في نسج شباكه ببطء وأناة حول الفريسة مُستغلّا علاقته بالفتى، فمن تعارف سريع إلى دعوة للنزهة إلى صداقة ثلاثية، سُرعان ما أراد البارون أن يحوّل دفتها نحو العلاقة الحميمية، التي هي هدفه الرئيسي، لاجئًا إلى سُبل عدة ما بين الشدّ والجذب إلى أن صارت المرأة تحت شباكه ومُشتركة في وهج لعبة الرغبّة التي أشعلها الرجل بتؤدة، ومن ثمّ صارت المرأة شريكًا ولاعبًا أساسيًا في “الرغبة الحارقة” التي لا ترى المُتضررين في طريقها نحو التحقق.

اكتشاف السر

رحلة العبور من الطفولة نحو البلوغ
رحلة العبور من الطفولة نحو البلوغ

يسلك الثنائي المُكوّن من البارون والأم جميع السُبل نحو إرواء الرغبّة المُتطلبّة والمُلحّة، في سبيل ذلك لم يتوانيا عن إبعاد الفتى عن مسار حديثهما الحميمي، وتكررت محاولات الهروب من البقاء معه، صار لهما سرهما الخاص الذي وإن لم يدركه الفتى بشكل واضح إلا أنه حدسه بصورة ما؛ فهو مُتعلق بتلك العلاقة التي تدور بعيدًا عن الأنظار وفي خفية دائمًا، وهي التي شكّلت تواطؤهما المُستمر ضده.

يسعى الفتى لاكتشاف ذلك “السرّ الحارق” الذي يجعل الكبار يكذبون عليه ويهربون منه كاللصوص، وبات موقنًا بأن ذلك السرّ هو المزلاج الذي يقفل باب الطفولة، وما إن يسحب المزلاج وينتزع السر فهذا يعني أنه قد صار كبيرًا، يُضفي ذلك عليه إصرارًا على انتزاع هذا المزلاج كي يدخل إلى عالم الكبار.

في سعيهما نحو إرواء رغبتهما “يحرقان” ذلك الفتى ولا يُبديان أي اهتمام بمشاعره، تبدو الرغبة الأنانية إلى الآن متعلقة ومُرتبطة بذلك الثنائي اللذين في استجابتهما لشهوتهما ينفيان الطفل ولا ينظران إليه.

مع قُرب انتهاء الرواية يظهر إدغار بعد أن خاض رحلة “فتح مزلاج الطفولة”، من خلال إفساده بمراقباته واقتحاماته المُتكررة لخلوة الزوجين، كإنسان تستبد به شهوة التملُك هو الآخر؛ ففي الصفحات الأخيرة يُعلن الكاتب عن حُب الفتى المَرضيّ لأمه المتمثل في “عُقدة أوديب”، وعلى ضوء ذلك فقد كانت رغبته الأنانية في الاستحواذ الكامل على اهتمام أمه وحبها دافعًا نحو اختيار الأم لوأد أنوثتها ورغباتها إلى الأبد، لتصير رغبته هي الحاكم والمُحرّك لحياة الأم، وتصير رغبة الفتى هي الأخرى “حارقة” لاحتياجات الأم وتطلعاتها.

“السر الحارق” هو ذلك العالم السحري الذي اكتشفه الفتى في رحلة عبوره من الطفولة إلى البلوغ؛ السر الذي أطلعه على ما تحمله تلك الرغبات الكامنة والعميقة من وعود وآمال بحياة مُتجددة وجميلة، لكنها عارية بجمالها المرعب، هو ذلك السر الذي جعله ممتنًا لكل تلك الرحلة المُضنية بكل ما فيها ومن فيها لأنه من خلالها عَبَر نحو اكتشاف عمق مشاعره ورغباته الكامنة.

14