"بات ما صبح" مسرحية بوليسية كوميدية تتبع مسار داريو فو

يبدو المسرح اليوم في مفارقة عليه أن يسير فيها بين ضفتين، ليحقق توازنه واستمراره، فمن جهة هو مطالب بتحقيق شروطه الفنية والإبداعية، ومن جهة أخرى عليه أن يراهن على استقطاب الجمهور وتحقيق المردودية المادية. من هنا كان اتجاه الكثير من المخرجين إلى الكاتب الإيطالي داريو فو، للاستعانة بمسرحياته الكوميدية الساخرة.
“بات ما صبح” من المسرحيات القليلة التي أعادت التَّصالح بين شباك التذاكر والجمهور المغربي، والتي عرضت مؤخراً في مسرح محمد الخامس بالرباط، بتمويل من وزارة الثقافة المغربية، وقدمت عروضها بعد ذلك في مدن مغربية أخرى.
“بات ما صبح” قدمتها فرقة الشهاب المسرحية، من تأليف جواد الخودي، وإخراج سعد التسولي، سينوغرافيا محمد أنوار زهراوي. قدم الموسيقى طارق خالدي، والديكور والإنارة عبدالرزاق قطني ومحمد مستغفر ومصطفى بران، والماكياج والملابس، حليمة السعدية ونادية ظهر، وتمثيل: فاطمة خير، سكينة درابيل، جواد الخودي، فؤاد سعد الله، سعد التسولي.
أثبتت “بات ما صبح” أن بالإمكان إعادة ثقة الجمهور بمسرح الصالون، الذي يعالج مسائل اجتماعية آنيّة يجد فيها المتفرج حياته، وما يعيشه حاضراً على خشبة المسرح. وأن يشارك الجمهور الممثل في المواقف والمفارقات الهزلية والدرامية التي تحصل على الخشبة.
كوميديا الصالون
اعتمد كاتب النص الحياة اليومية لأسرة أحد أغنياء المدينة، الذي جمع أمواله من خلال الصفقات المريبة، والرَّبا والتربّح من السَّمسرة. الزوج الغني “الحاج” مثل دوره فؤاد سعدالله، والمتزوج من شابة صغيرة السن، جميلة، مثلت دورها فاطمة خير. يدير حياته الزوجية، كما يفعل يومياً أثناء عمله في السوق من خداع وكذب، وهو على علاقة مشبوهة بامرأة أخرى، ويتواصل معها هاتفياً طالباً منها بإلحاح موعدا غراميا.
ويكرر طلبه للمرأة متوسلاً بينما زوجته الشابة، المختفية خلف الكواليس ولا يظهر منها سوى رأسها وهي تنصت لما يقوله زوجها خلسة، لكنها تغضُّ الطرف عن تصرفاته الصبيانية، وحالما يلمح الحاج زوجته مقبلة نحوه يغيّر نبرات صوته، وموضوع حديثه مع المرأة، محاولاً التمويه على زوجته.
يؤكد الزوج لزوجته أن من يتصل به هو أحد عملائه في السوق، لكنها تخطف الهاتف المحمول من كفه، وتتصل بالمرأة في الجانب الآخر، لكي تثبت للحاج أنها تعرف ما يفعل من وراء ظهرها. لكن الحاج لا ييأس من محاولة إيهامها أن المرأة هي التي تعاكسه، وليس هو، وأن حظه السيء جعله هدفاً لهذه المرأة الوضيعة. فتتعالى ضحكات الجمهور من خلال حوارات بنيت على مفارقات، وأكاذيب يحاول الحاج فيها تبرير بعض تصرفاته المريبة، لزوجته الشابة.
شخصيات “بات ما صبح” لها لون كتابات المسرحي الفكاهي الإيطالي داريو فو الارتجالية، كمسرحية “الرجل العاري بثياب السهرة” و”لا يأتي اللصوص” والأخيرة تحكي عن لص، هو عشيق سابق لزوجة صاحب البيت، ويفاجأ، وهو يسرق بيتها، بعودة زوجها من السفر ومعه عشيقته.
فيختفي في دولاب كبير أعدَّ لساعة المنزل الضخمة، وتلحق بالبيت زوجة اللص الغيورة، التي تعرف أن زوجها كان عشيقا سابقا لصاحبة البيت!! ومن الجمع بين المتناقضات خلق داريو فو مفارقاته الهزلية، التي تضحك الجمهور، وتدين في الوقت نفسه تحلّل المجتمع البرجوازي الإيطالي. ومسرحه يقوم على فكرة فضح الرياء، والسلوكيات المجتمعية السيئة، وإظهار ما يحاول الآخرون إخفاءه عن الجميع بما يسمى بكوميديا الصالون.
كوميديا الصالون هي التي تتبعها مؤلف ومخرج “بات ما صبح” إذ بتتابع المشاهد، والمواقف الكوميدية في المسرحية يكتشف الجمهور، مأساة الزوجة الشابة، التي كانت مخطوبة لشاب مثّل دوره جواد الخودي، ولكن بسبب التعامل غير النزيه من قبل الحاج في العمل فقد أوقع أباها في صفقات خاسرة، مما جعله يستدين منه بربا فاحش.
ولم يستطع الأب تسديده، لذا خيره الحاج بين السجن أو تزويجه بابنته الشابة. ولكن الفتاة الشابة التي لم يكن أمامها إلا إنقاذ أبيها وعائلتها من فضيحة سجن رب العائلة بقبولها بالزواج من الحاج، الذي كان يسير بمساعدة عكاز، ولكنها تبقى محبة لخطيبها السابق.
النكتة السوداء
الأحداث في مسرحية “بات ما صبح” تجري على طريقة مسرح داريو فو الضاحك، والناقد في الوقت ذاته للسلوكيات المجتمعية، التي يفرضها النظام البرجوازي، وسرعان ما تتطور. وتتقدم العقدة الدرامية في “بات ما صبح” حين ينكشف الحاج عند زوجته بعلاقاته المريبة مع النساء وبخله، وتذكيرها بفقرها، وفقر أفراد عائلتها، وفضله عليهم. وتذكيرها الدائم لها، بأنه لم يقدم الشيكات التي بلا رصيد والموقعة من قبل أبيها إلى القضاء لسجنه إكراماً لها.
وبالرغم من الحوار اللماح في النص، وقدرة المؤلف على تحميل الموقف روح النكتة السوداء، مما أضفى الحيوية على المضمون الدرامي، وجعله موضوعا للفكاهة والضحك. إلا أنه في صميمه تضمن حزناً دفيناً حمل الكثير من الأسئلة عن المأساة التي تعيشها هذه الزوجة الشابة وأمثالها، ممن ارتهنت حياتهن بسبب وضع أسرهن الاقتصادي والاجتماعي، الذي فرض عليهن زيجات مصلحة غير متكافئة مع أمثال الحاج.
جعلنا النص المسرحي”بات ما صبح” نعتبر ضمنيا علاقة الزوجة بخطيبها السابق، كنوع من الوفاء للحبيب السابق. وأن المرأة لم تقترف شططاً برفضها الحياة مع الحاج، الذي امتهنها، وجعلها كدمية اشتراها ثم ملَّ منها وألقاها. ولعب ديكور المسرحية والسينوغرافيا المستخدمة في تأثيث المشاهد دوراً مهماً في تعميق رمزية وجود الزوجة الشابة في بيت الحاج، وحياته كإضافة من إضافات قطع الأثاث الكثير فيه.
وقدم المخرج مسرحيته “بات ما صبح” كفن له رسالة إنسانية نقلت مشاعر الغضب، والرفض لما تعانيه الزوجة الشابة، وكذلك لم يغفل الجانب التجاري لمسرحيته.
فهو من جانب كان ينظر إلى فنه المسرحي كفن له شروطه الإبداعية والجمالية، التي عليه أن يراعيها، ومن جانب آخر كانت عينه إلى
ما يدره شباك التذاكر من حصيلة مالية. والتي لا يمكن أن يحققها إلا من خلال ما يقدمه للجمهور من سرور ومتعة، وهو يتابع مفارقات كوميدية، ومواقف إنسانية تتأزم حين تقرر الزوجة، وخطيبها السابق
الخلاص من الحاج بالقتل. فتتحول المسرحية إلى عمل بوليسي كوميدي بعد قتل الحاج، وتحقيق أمين الشرطة مع الزوجة، وسؤالها عمن قتل الحاج.
حملت مشاهد المسرحية الكثير من المفارقات الضاحكة، التي تقع بين الخادمة، وأدت دورها سكينة درابيل والخطيب الشاب.
ولن ينسى الجمهور ترديد الخادمة لكلمة “هاي!!”بصوت ممطوط، حين تفاجأ بالخطيب الشاب مختفياً في أحد دواليب الصالون، فتعرف فوراً بالعلاقة بينه، وبين صاحبة المنزل. فتكرر كلمة “هاي” مرحبة بالخطيب بما تحمله الكلمة من مغاز كثيرة بالرغم من ادعاء الزوجة الشابة أن الرجل هو ــ السباك ــ الذي جاء لتسليك أنابيب المياه في المنزل.